كل يومين يخرج علينا وزير أو مسؤول ويمطرنا بأرقامه حول عدد الذين تم تشغيلهم خلال العام الجاري، واذا اردنا ان نصدق هذه الأرقام فلا أحد يشرح لنا أساسا طبيعة هذه الوظائف، وجدواها الاقتصادية، واثرها الفعلي، ونسبة استقرار الحاصلين على هذه الوظائف.
هناك ازمة كبرى يتم التعمية عليها بواسطة الأرقام والإحصاءات، فيما ارقام العاطلين عن العمل تقترب من حدود الثلاثمائة الف، ان لم يكن اكثر، وما دمنا في اطار تكذيب الأرقام أيضا، فأعتقد أن عدد العاطلين عن العمل، اكبر من هذا الرقم بكثير، خصوصا اذا اضفنا مئات آلاف الحاملين لشهادات جامعية وخبرات، ويعملون بوظائف بدخول دون الثلاثمائة دينار، من اجل التشاغل بعيدا عن البيت، وهي مبالغ لا قيمة لها فعليا، او اضفنا ارقام الذين لا يخضعون لمثل هذه الإحصاءات.
لا يمكن حل مشكلة البطالة بهذه الطريقة الاستعراضية، والاعتصامات التي شهدناها طوال سنين، تثبت ان الازمة خرجت من يد الحكومات، وانفلتت باتجاهات أخرى، اذ بدلا من إدارة الازمة عبر الحكومات المتتالية، وما يفترض ان يفعله البرلمان في هذا الصدد، تم إيصال الناس، إلى السقف، وكأن المشكلة بينهم وبين الديوان الملكي، وهذه كلفة خطيرة، لا يمكن التهاون معها، لكنها تعبر أيضا عن ازمة عميقة في المجتمع، تضرب كل اركانه وزواياه، نهارا وليلا.
هناك ازمة زاد من حدتها ثلاثة أمور، أولها تزايد عدد الخريجين كل عام، بتخصصات ميتة لا مستقبل لها، وتم اشباع السوق منها، ولا احد يبذل جهدا من اجل اغلاقها وفتح غيرها، وثانيها عودة اعداد من الأردنيين من الخارج بسبب فقدان وظائفهم، وثالثها ان القطاع الخاص تم انهاكه كليا، وبعد ان كان بديلا عن القطاع العام في استيعاب الناس، بات مرهقا جدا، بسبب الضرائب وكلف الإنتاج والطاقة وغير ذلك، وبات يتخلص من عمالته، بدلا من تشغيل اعداد جديدة، في تخصصاتهم، او تدريبهم على مهن مختلفة.
لا يجد الناس حلا هنا سوى طرق أبواب الدولة، لكن لا وظائف مفتوحة أساسا، والجهاز الحكومي يتمنى لو يتخلص من مائة الف موظف ضمن خطة إعادة الهيكلة، اذا استطاع ان يفعل ذلك، لكنه غير قادر على تنفيذها فعليا، بسبب الخوف من ردة الفعل الشعبية، وبسبب عدم وجود سيولة مالية، لتقديم عروض للموظفين من اجل الخروج، لكننا سنجد انفسنا قريبا امام إعادة هيكلة من نوع آخر، وتحت عناوين ومبررات مختلفة، وستؤدي إلى تخفيف عدد العاملين الحكوميين جزئيا، في بعض أنواع المؤسسات، والغاية خفض النفقات، والحكومة هنا ستواجه ازمة كبرى مع المتضررين، بشكل او آخر.
معنى الكلام، لا يخص هذه الحكومة منفردة، حتى لا تبدو القضية ثأرية او شخصية، هناك فشل كبير في إدارة ملف العاطلين عن العمل، والسبب في ذلك سياسات الترقيع العاجلة من أجل تهدئة الرأي العام وإغراقه بالأرقام والإحصاءات، وكان الأصل بدلا عن ذلك معالجة المسببات التي تقودنا إلى البطالة، من اجل تحسين البيئة الاقتصادية بشكل عام، وجعلها قادرة على استيعاب كل هذه الاعداد، بدلا مما نراه من سياسات تؤدي إلى العكس تماما.
من السلبي ان نتورط في إثارة النفور من المناخات الاقتصادية، لكننا امام عجز يتزايد في موازنة الحكومة والذي سيتجاوز المليار دينار أردني، مع نهاية العام، فوق ضغوطات صندوق النقد الدولي، والتوجه لقرارات اقتصادية صعبة تؤثر على أسعار الكهرباء للمستهلكين التي لدينا فائض كبير منها وندفع ثمنه في كل الأحوال، ولا نجد من يشتريه في الاقليم، ولا نتنازل لتقديمه بسعر اقل للمصانع والشركات الأردنية، لتخفيف الأعباء عنها، مقابل شروط مثل زيادة اعداد العاملين الأردنيين، وغير ذلك.
الأزمة الكامنة تحت الرماد، هي أزمة مئات آلاف العاطلين عن العمل، وهي ازمة تقودنا نحو الغضب الاجتماعي، والجريمة، وتفشي الأزمات والخراب والطلاق، وانهيار بنية العائلات وغير ذلك، وحتى الآن، تتجلى الازمة بأبشع صورها، فيما إطفاء نيرانها يتم عبر سياسة الدفاع عن النفس، بواسطة الإحصاءات والأرقام، فيما الواقع على الأرض مختلف تماما.
حكوماتنا لا تكذب ابدا. اريد ان اصدق ذلك. فقد نعاني من توهم نفسي، مما نحن فيه، ورحم الله من يرى الواقع فلا يسعى لتزييفه، وكأننا مجرد مجاميع بشرية جاهلة.
إرسال تعليق