عندما يشرع المتقاعد للملمة أوراقه وأغراضه الخاصة من مكتبه التي لازمته سنين حياته العملية الطويلة مروراً بمرحلة حياة الشباب والنضوج والعطاء بكل ذكرياتها الحلوة والمرة ، تبدأ المرحلة المجهولة والمقلقة ومعها تبدأ التأثيرات البيولوجية والصحية والنفسية على أيامه القادمة ، فالكثيرين ممن دخلوا محيط هذه الحياة الجافة بـإحالته إلى التقاعد ، سينتقل إلى الرفيق الأعلى وهو جالس! بسبب أنظمة التقاعد المدني البالية المعمول بها في بلادنا ..
يوما بعد يوم ستبدأ عند المتقاعد حالة الذهول والكآبة والنسيان ، ليعيش الذكريات ، حين يشعر بفقدان المنصب والمكتب وتجمد المورد المالي والامتيازات ، وتوقف تمتعه بخدماته ، والأهم من كل ذلك أنه يبقي وحيدًا وابتعد عنه كل منافقي المنصب ، وخرج من لائحة العمل التي كان يعمل بها بالأمس ، ودخل مجبراً محيطاً جديداً غريباً عليه ، ليعيش حالة من الفراغ والملل والكآبة والضياع تؤدي بتفاعلها المستمر على مستقبل عائلة المتقاعد لارتفاع التقاطعات المستمرة لنمط عيش تلك العائلة بعد بقاء عائلها أطول مدة في البيت ، فقد وصف هذه الحالة الاقتصادي الأمريكي مالكوم فوربس ناشر مجلة فوربس الشهيرة ببحث نشر في المجلة بعنوان (التقاعد يقتل أكثر من العمل الشاق).
عندنا في الاردن المتقاعد مدنيّاً كان أم عسكريا يعيش بعيدًا عن حركة المجتمع الذي يعيش بداخله ، ففي حالات معينة يتقاضى اليوم من بلغ درجته ضعفين ونصف دخله التقاعدي ، فقد تجمد راتبه منذ إحالته إلى التقاعد حتى يومنا هذا وكأن الظروف المعاشية لاقتصادنا قد تجمدت معه.
ومما يُعقد الامور أن الأنظمة المالية البنكية تزيد عليه همومه وتضيق عليه دائرة الحاجة والعوز المادي وتدفعه قسراً لطلب المعونة المقلة لكرامته كمواطن له حقوق وعليه واجبات نحو مجتمعه ، فعندما يتقدم المتقاعد كغيره ممن المواطنين إلى البنوك التجارية طالباً قرضاً تمويلياً ليعلم ابنه أو لترميم بيته أو لعلاجه من آلام الأمراض التي رافقته بشوق منذ الأيام الأولى لدخوله في دائرة التقاعد ، يأتيه الرد القاسي من البنك بالاعتذار عن منحه القرض النقدي لتعديه السن القانونية للقرض ، وذلك لخطورة عملية استعادة اقساط القرض، وكأن لسان حال البنوك يقول للمتقاعد انك أقرب إلى القبر من الحياة ، بحسب تعليمات البنوك ، وهنا أترك للمسؤولين في الدولة إدراك التأثير القاسي والمؤثر على نفسية المتقاعد وليتذكروا أن الأعمار بيد الله سبحانه وتعالى .
ان الدول المتقدمة الراقية التي تهتم بمواطنيها المتقاعدين ومثل اليابان والمانيا والسويد على سبيل المثال تقدم للمتقاعد امتيازات أكثر من الشباب العاملين ، مثل بطاقة تأمين صحي شاملة مدى الحياة لكل المؤسسات الصحية في الدولة وكذلك امتيازات رفاهية بخصم ٥٠% من قيمة تذاكر السفر ، مع التزام الدولة من خلال المؤسسة التي كان يعمل بها بتشغيله بمسمى مستشار ويخصص له مكتب مؤثث ويشارك مدة ساعتين يومياً في فعاليات تلك المؤسسة ، ووفق تخصصه ، وهو في الاساس منتسب لهيئة نقابية خاصة بالمتقاعدين ، وفي كل عام تخصص هذه الهيئة -جمعية المتقاعدين- رحلة سياحية بالتعاون مع شركات السياحة الوطنية ينضم لها المتقاعد الراغب بالسفر وبأسعار تفضيلية خاصة ، كما يمنح المتقاعد بطاقة اشتراك في النوادي والمنتجعات الحكومية مجانًا ، وله (الأفضلية) في الحصول على القروض الشخصية وبدون فوائد ، حيث بالغت الدولة اليابانية على سبيل المثال في تدليل المتقاعد لحمايته من الكآبة والفراغ بإنشاء جامعة خاصة للمتقاعدين ليقدموا من خلالها دراساتهم وبحوثهم والانخراط بدورات تدريبية من أجل خدمة المجتمع .
أنظمة التقاعد في بلادنا وللاسف ما زالت بحاجة ماسة إلى امداد يد الإصلاح والتطوير لها تمشيًا مع نهضة العهود الحديثة التي ترفع من حالة الأداء الشامل في المؤسسات الحكومية والخاصة علماً بأن شريحة المتقاعدين تمثل نسبة عالية من مجتمعنا ، وهنا ولا أبالغ حين القول إن العائد التقاعدي الشهري لا يسد الاحتياجات الضرورية للعائلة المتوسطة ، وسيف الديون وفواتير الخدمات العامة ينزل جارحاً على رقاب المتقاعدين كل شهر.
يجب ان نعي ان المتقاعد يمثل مرحلة تكامل الخبرات المهنية والعلمية لأجيال المستقبل من أجل تطوير الأداء الوظيفي للمجتمع بأكمله ، ولا بُـدَّ من تفعيل ثقافة الاستفادة من طاقات المتقاعد في مجال خبرته المهنية والعلمية وفي كل المجالات الإنسانية الأخرى فالعمل للمتقاعد علاج وإنتاج ، وفي ذلك فلا بُـدَّ أن ايجاد جمعيات للمتقاعدين لتضع الخطط الاستراتيجية الخاصة للاستفادة من الطاقات والخبرات المختزنة لدى المتقاعد لتحويله من حالة الميت القاعد إلى المواطن المنتج المشارك في دورة خدمات مجتمعه المتعددة ونقله من خانة الاستراحة المترهلة وزاوية النسيان إلى العمل المثمر ، ولو كان قاسيًا ففيه متعة الأداء والواجب الوطني ويجسد ذلك قول مشهور للمفكر البريطاني جورج برنادشو بقوله "الحياة المليئة بالعمل أكثر نفعًا وجدارة بالاحترام من حياة فارغة من أي عمل" .
واخيراً أتمنى على المسؤولين في مجلس الوزراء الموقر العمل على تحديث نظام التقاعد المدني بما يتلاءم مع التطور الهائل الذي توليه المجتمعات المتقدمة في العالم للمتقاعد من امتيازات متعددة لإعادة تأهيله لخدمة مجتمعه، وإنقاذه من حالة الشعور بأنه مواطن منتهي الصلاحية..
والله ولي التوفيق
يوما بعد يوم ستبدأ عند المتقاعد حالة الذهول والكآبة والنسيان ، ليعيش الذكريات ، حين يشعر بفقدان المنصب والمكتب وتجمد المورد المالي والامتيازات ، وتوقف تمتعه بخدماته ، والأهم من كل ذلك أنه يبقي وحيدًا وابتعد عنه كل منافقي المنصب ، وخرج من لائحة العمل التي كان يعمل بها بالأمس ، ودخل مجبراً محيطاً جديداً غريباً عليه ، ليعيش حالة من الفراغ والملل والكآبة والضياع تؤدي بتفاعلها المستمر على مستقبل عائلة المتقاعد لارتفاع التقاطعات المستمرة لنمط عيش تلك العائلة بعد بقاء عائلها أطول مدة في البيت ، فقد وصف هذه الحالة الاقتصادي الأمريكي مالكوم فوربس ناشر مجلة فوربس الشهيرة ببحث نشر في المجلة بعنوان (التقاعد يقتل أكثر من العمل الشاق).
عندنا في الاردن المتقاعد مدنيّاً كان أم عسكريا يعيش بعيدًا عن حركة المجتمع الذي يعيش بداخله ، ففي حالات معينة يتقاضى اليوم من بلغ درجته ضعفين ونصف دخله التقاعدي ، فقد تجمد راتبه منذ إحالته إلى التقاعد حتى يومنا هذا وكأن الظروف المعاشية لاقتصادنا قد تجمدت معه.
ومما يُعقد الامور أن الأنظمة المالية البنكية تزيد عليه همومه وتضيق عليه دائرة الحاجة والعوز المادي وتدفعه قسراً لطلب المعونة المقلة لكرامته كمواطن له حقوق وعليه واجبات نحو مجتمعه ، فعندما يتقدم المتقاعد كغيره ممن المواطنين إلى البنوك التجارية طالباً قرضاً تمويلياً ليعلم ابنه أو لترميم بيته أو لعلاجه من آلام الأمراض التي رافقته بشوق منذ الأيام الأولى لدخوله في دائرة التقاعد ، يأتيه الرد القاسي من البنك بالاعتذار عن منحه القرض النقدي لتعديه السن القانونية للقرض ، وذلك لخطورة عملية استعادة اقساط القرض، وكأن لسان حال البنوك يقول للمتقاعد انك أقرب إلى القبر من الحياة ، بحسب تعليمات البنوك ، وهنا أترك للمسؤولين في الدولة إدراك التأثير القاسي والمؤثر على نفسية المتقاعد وليتذكروا أن الأعمار بيد الله سبحانه وتعالى .
ان الدول المتقدمة الراقية التي تهتم بمواطنيها المتقاعدين ومثل اليابان والمانيا والسويد على سبيل المثال تقدم للمتقاعد امتيازات أكثر من الشباب العاملين ، مثل بطاقة تأمين صحي شاملة مدى الحياة لكل المؤسسات الصحية في الدولة وكذلك امتيازات رفاهية بخصم ٥٠% من قيمة تذاكر السفر ، مع التزام الدولة من خلال المؤسسة التي كان يعمل بها بتشغيله بمسمى مستشار ويخصص له مكتب مؤثث ويشارك مدة ساعتين يومياً في فعاليات تلك المؤسسة ، ووفق تخصصه ، وهو في الاساس منتسب لهيئة نقابية خاصة بالمتقاعدين ، وفي كل عام تخصص هذه الهيئة -جمعية المتقاعدين- رحلة سياحية بالتعاون مع شركات السياحة الوطنية ينضم لها المتقاعد الراغب بالسفر وبأسعار تفضيلية خاصة ، كما يمنح المتقاعد بطاقة اشتراك في النوادي والمنتجعات الحكومية مجانًا ، وله (الأفضلية) في الحصول على القروض الشخصية وبدون فوائد ، حيث بالغت الدولة اليابانية على سبيل المثال في تدليل المتقاعد لحمايته من الكآبة والفراغ بإنشاء جامعة خاصة للمتقاعدين ليقدموا من خلالها دراساتهم وبحوثهم والانخراط بدورات تدريبية من أجل خدمة المجتمع .
أنظمة التقاعد في بلادنا وللاسف ما زالت بحاجة ماسة إلى امداد يد الإصلاح والتطوير لها تمشيًا مع نهضة العهود الحديثة التي ترفع من حالة الأداء الشامل في المؤسسات الحكومية والخاصة علماً بأن شريحة المتقاعدين تمثل نسبة عالية من مجتمعنا ، وهنا ولا أبالغ حين القول إن العائد التقاعدي الشهري لا يسد الاحتياجات الضرورية للعائلة المتوسطة ، وسيف الديون وفواتير الخدمات العامة ينزل جارحاً على رقاب المتقاعدين كل شهر.
يجب ان نعي ان المتقاعد يمثل مرحلة تكامل الخبرات المهنية والعلمية لأجيال المستقبل من أجل تطوير الأداء الوظيفي للمجتمع بأكمله ، ولا بُـدَّ من تفعيل ثقافة الاستفادة من طاقات المتقاعد في مجال خبرته المهنية والعلمية وفي كل المجالات الإنسانية الأخرى فالعمل للمتقاعد علاج وإنتاج ، وفي ذلك فلا بُـدَّ أن ايجاد جمعيات للمتقاعدين لتضع الخطط الاستراتيجية الخاصة للاستفادة من الطاقات والخبرات المختزنة لدى المتقاعد لتحويله من حالة الميت القاعد إلى المواطن المنتج المشارك في دورة خدمات مجتمعه المتعددة ونقله من خانة الاستراحة المترهلة وزاوية النسيان إلى العمل المثمر ، ولو كان قاسيًا ففيه متعة الأداء والواجب الوطني ويجسد ذلك قول مشهور للمفكر البريطاني جورج برنادشو بقوله "الحياة المليئة بالعمل أكثر نفعًا وجدارة بالاحترام من حياة فارغة من أي عمل" .
واخيراً أتمنى على المسؤولين في مجلس الوزراء الموقر العمل على تحديث نظام التقاعد المدني بما يتلاءم مع التطور الهائل الذي توليه المجتمعات المتقدمة في العالم للمتقاعد من امتيازات متعددة لإعادة تأهيله لخدمة مجتمعه، وإنقاذه من حالة الشعور بأنه مواطن منتهي الصلاحية..
والله ولي التوفيق
إرسال تعليق