كتبت مرارا، أن لا علاقة للتعليم بسوق العمل، وأن هدف التعليم هو بناء الإنسان الحر المستقل صاحب الإرادة، المحب للحياة، والقادر على العيش.
وبالتأكيد ليس بناء العامل المختص بعمل ما. وكانت أدلتي، إن سوق العمل متغيّر وأن مهناً مفاجئة ستأتي، ومهناً عريقة ستختفي، كما أن المهنة التي ستبقى، ستتغير أدواتها وإجراءاتها، فلن يبقى المعلم ممسكاً بطبشورة أو واقفاً يتحدث، ولن تكون صورة الطبيب هو من يمسك السماعة ويرتدي مريولاً أبيض.
ومع ذلك لا ينقطع الحديث عن اتهام التعليم بأنه بعيد عن سوق العمل، وأن جهود المعلمين في المدارس والجامعات تذهب سدّى، بحيث لا يجد خريجوها فرصاً للعمل، وفي ندوة لمناقشة التقرير الاقتصادي، الاجتماعي، أو ما يسمّى بحالة البلاد، طالب وزير العمل، الجامعات بإلغاء التخصصات المشبعة. والبحث عن تخصصات جديدة ترتبط بسوق العمل، ولم يمتلك قادة الجامعات حيلة للرد. فهذه التخصصات القديمة هي وسيلتهم
لكسب العيش. والتخصصات الجديدة تفوق مستوى قدرتهم على الإبداع.
(1 )
هل يجب أن يبقى هذا المنطق؟
ما دام الوضع ساكناً، والإبداع مغيباً. فمن الطبيعي أن نبقى نردد، يجب ربط التعليم بسوق العمل! فعن أي سوق عمل نتحدث؟ هل هو السوق الحالي الذي سيختفي خلال عشر سنوات أو أقل؟ أم هل هو سوق العمل المقبل الذي لا نعرف عنه شيئاً؟
وفي كلا الحاليين، فإننا نفتح جبهات في الهواء على وهم وخيال! إن إعداد الإنسان للعمل، يجب ألا يكون على حساب إعداده للحياة. فالعمل جزء من الحياة، وليس كلها، نعمل 6-8 ساعات على مدى خمسة أيام، ولكننّا نعيش خارج العمل فترة أطول بكثير، لذلك علينا أن نفكر في طريقة الإعداد وإجراءاته ومحتواه، ويبقى سؤال: هل نلغي التخصصات الراكدة؟ ماذا لو تحسن سوقها؟
في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، صار كساد كبير في خريجي الفلسفة وعلم الاجتماع، ودارت أفكار ومقترحات حول ضرورة منع الالتحاق بهذا التخصص، وخلال هذا الجدل، طلبت المغرب من الأردن رفده بمئات خريجي الفلسفة، ذهبوا جميعاً، ولم يبق لدينا من يدّرس هذه المادة في بلادنا!! هذا حصل أيضاً في دول الخليج التي أخذت شبابنا من تخصصات كانت راكدة إلى الحد الذي منعت فيه وزارة التربية إعارة أي معلم، أو استقالة أي معلم!!
إذن سوق العمل متغيّر! والتخطيط له يجب أن يتخذ مسارات جديدة، ليس أهمها المواءمة بين التعليم والإعداد وسوق عمل وهمي! طبعاً هذا ليس كافياً لعدم الربط، فهناك مبررات أخرى عديدة!!
(2 )
سوق العمل المقبل
يقول باحثو الدراسات المستقبلية، إن سوق العمل المقبل غير معروف، وكما قلت قبل قليل، ستختفي معظم الأعمال الحالية، ولن نعرف المهن البديلة، فالطبيب سيستخدم أدوات جديدة، وكذلك المعلم والمهندس والمزارع وصاحب “الدراي كلين” و”البنشرجي”، فماذا ينفع لو كانت المناهج تعدهم لهذه المهن، كما هي الآن؟ أليس هذا جهداً ضائعاً؟
إذن ما العمل؟
نعود إلى مقولة: هل التربية هي الحياة أم إعداد للحياة؟
إذا كانت التربية هي الحياة، فإن المناهج يجب أن تتوجه نحو متطلبات الحياة نفسها، ووفق متغيراتها، وليس في وضعها الساكن!
وإذا كانت التربية هي إعداد للحياة، فإن علينا أن نعرف أي نوع من الحياة! هل هي الحياة الحالية والتي ستبقى ثابتة؟ هل نعد الطبيب لاستخدام السماعة والإبرة، وعامل “الدراي كلين” لاستخدام مكواة البخار، وكهربائي السيارات لاستخدام “البواجي”، أم أن السيارات الكهربائية ستلغي كل هذا؟
إن سوق العمل المقبل، سيكون جديداً، وإن مهاراته ستكون جديدة، إذن لماذا نعدّه وفق النمط القديم؟ وما الحل؟
(3 )
مهارات الإبداع وإنتاج المعرفة
إذا كان العالم متغيراً، وسوق العمل متغيراً، فإن مهارات العمل المطلوبة هي مهارات مواجهة التغيير، وهذه المهارات هي:
انتاج المعرفة.
التنبؤ والتوقع.
المرونة وتبديل المواقف.
التفكير بشكل عام وخاصة الإبداعي والمنطقي.
وباختصار؛ مهارات إدارة التغيير والتعامل معه، لا تكيفاً بل سيطرة وإدارة!!
يحتاج إنسان السنوات العشر المقبلة، لإعداد شخصيته ليكون فاعلاً مسيطراً، غير تائه. إنسان لا يفاجئه التغيّر السريع.
في ندوة د. رمزي هارون الرائعة في شومان قال: وهذا ليس اكتشافاً له، ولكنه حقيقة علمية: إن الإنسان قد يغير عمله بمعدل يفوق عشر مرات في حياته. وأنا أقول ويغيّر مسكنه عشر مرات، ويغير سيارته ونمط حياته عشر مرات، ويغيّر أدواته وأثاثه وحتى أفكاره وبعض قيمه ومعتقداته ونظرته إلى كثير من الأمور!!
وعودة إلى د. رمزي هارون: إذا كان العامل يغير مهنته أكثر من مرة، فعلى أي مهنة نعده؟
الجواب طبعاً: نعده شخصاً ناسياً قادراً منتجاً للمعرفة، وهو من سيتدبر أمر عمله! كما أن المؤسسة التي سيعمل فيها هي من تؤهله لعمل ما!! وليس الجامعة التي درس فيها وعودة إلى التخصصات الكاسدة! ماذا نفعل بها؟
(4)
تخصص التاريخ: تخصص كاسد!! مثالاً!!
يشاع أن خريجي التاريخ لا يجدون عملاً ولذلك يتفق الجميع، أن على الجامعة أن تلغي هذا التخصص. لسبب “عظيم” هو أن خريج هذا التخصص لا يجد عملاً!
هل الحل بإلغاء التخصص؟ أم بتطويره، ليناسب أو ليحفز على إنتاج العمل!
لقد تغيّر مفهوم العمل: كان وظيفة، يقدمها شخص أو مؤسسة. لشخص يطلب الوظيفة، ثم صار العمل “عملاً” يبنيه شخص ما وفق مواصفات المجتمع: كان يفتح شخص ما محل خضراوات، أو معملاً لصناعة الألبان!! إن مفهوم العمل في هذا القرن هو “إنتاج” عمل. ربما غير معروف، وربما لا يناسب شخصاً غيرك! فإنسان عامل معرفة. وعليه أن ينتج عمله بنفسه. ووفق ما يناسبه!! عودة إلى تخصص التاريخ، وقد ذكرته مثالاً لتخصص كاسد طلب وزير العمل إلغاءه!
قلت وقتها في اجتماع مناقشة تقرير حالة البلاد بقيادة “الجندي غير المجهول” مصطفى حمارنه، إن بإمكاننا تطوير خطة دراسة التاريخ في الجامعة لمساعدة الخريجين على إنتاج عمل ما، وقلت بالإمكان إذا ما غيّرنا خطة دراسة التاريخ أن تنتج عشرات الأعمال، مثل:
انتاج وثائق تاريخية.
انتاج ملابس تاريخية.
إحياء أدوات تاريخية.
إدارة معارض تاريخية.
انتاج معرفة تاريخية.
إصدار مجلة تاريخية.
تصوير أماكن تاريخية.
-إلخ.
ماذا لو تعلم طلاب التاريخ هذه المهارات؟ هل سيكون الخريج كاسداً؟
المطلوب تغيير طريقة التفكير. لا إعداد لعمل معين بل إعداد للحياة! هذا هو دور التعليم.
*خبير تربوي.
إرسال تعليق