101 عام على إنشائها... "العمل الدولية" والثورة الرقمية أيهما يحسم الصراع؟


أحمد عبد الحكيم - اندبندنت العربية
"التشجيع اللائق لفرص العمال وتعزيز الحقوق في العمل، والسعي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية، فضلاً عن دعم الحوار حول القضايا ذات الصلة بالعمل"، كان هذا أحد مبادئ منظمة العمل الدولية، المعروفة اختصاراً بـ"ILO"، التي نشأت أعقاب الحرب العالمية الأولى عام 1919، وتدخل عامها الأول بعد المائة على وقع مزيد من التغيرات والتحديات تواجه "الحكومات وأصحاب العمل والعمال" على السواء، لا سيما أنها الوكالة الأممية الوحيدة، التي تعطي صوتاً متساوياً لهذه الأطراف الثالثة.
وفي عصر الرقمنة والثورة التكنولوجية، يتساءل متخصصون ومعنيون بشأن دور المنظمة، التي تتخذ من جنيف مقراً لها، وتضم في عضويتها 187 دولة، وتعد الوحيدة الباقية المنبثقة من معاهدة فيرساي، ماذا يحمل الغد للوظائف وحقوق العاملين؟، وكيف سيبدو شكل مهامها بحلول القرن الثاني على إنشائها مع تزايد الرقمنة؟، ومن بات يتحكم في حقوق العمال واحتياجات السوق؟، فضلا عن مدى تكيفها مع متطلبات العصر وتحدياته، وذلك في وقت تؤكد ربا جرادات، المدير الإقليمي للمنظمة، "أن عالم العمل آخذ بالتغيير، لتتغير معه الحياة اليومية لمئات الملايين من العمال حول العالم".
تساؤلات حول مستقبل العمل
على وقع التحديات المتواصلة، التي تواجه مستقبل العمل والعمال، حث التقرير الأخير، الصادر عن اللجنة العالمية لمستقبل العمل التابعة لمنظمة العمل الدولية، الحكومات وأرباب العمل والنقابات، على تقديم أجندة "محورها الإنسان"، من أجل تأمين العمل اللائق في السنوات المقبلة، على أساس الاستثمار في القدرات البشرية وأماكن العمل والوظائف اللائقة والمستدامة.
وحذر التقرير الذي صدر في يناير (كانون الثاني) من العام الماضي من أن عالم العمل يُواجه "تحولات غير مسبوقة"، تدفع باتجاهها تقنيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي والرقمنة والروبوتات، بالإضافة إلى التغيرات المناخية والهجرة والعولمة".
تحذير آخر أصدره غاي رايدر، المدير العام لمنظمة العمل الدولية، قبل شهر من إعلان المئوية لمستقبل العمل في يونيو (حزيران) 2019، حين قال، "إذا كنت تبلغ من العمر 18 عاماً، وتخطو خطواتك الأولى في سوق العمل، أو كنت شخصاً في منتصف حياته المهنية، يواجه البطالة بسبب التطورات التكنولوجية، فأنت الآن بلا شك، في معرض طرح بعض الأسئلة المهمة على نفسك؛ وفي ضوء هذه الخلفية، فإن التفاوت في عدم المساواة يتعمق. في عالم العمل، هناك مجموعة من القضايا التي لا تزال عالقة وتحتاج إلى حلول".
وأضاف، "أن التغيّر الديموغرافي يؤدي إلى تحولات في أماكن العمل، وعليه يجب علينا هندسة أسواق العمل، بحيث لا ندفع بالناس إلى ما يتخطى قدراتهم البدنية الطبيعية؛ فإذا كنت تتوقع أن يتجاوز العمال في حياتهم المهنية 70 عاماً، فعليك أن تقوم بطريقة مستمرة بإعادة تأهيلهم".
وبحسب متخصصين تحدثوا لـ"اندبندنت عربية"، فإن بيئة العمل في القرن الحالي باتت بحاجة "ملحة" لتغيرات جوهرية تتناسب وعصر الرقمنة والثورة التكنولوجية الراهنة التي تجتاح العالم، وهو ما كشفته بوضوح جائحة كورونا، التي تضرب العالم منذ أشهر وقادت أغلب بلدانه نحو الإغلاق الكلي أو الجزئي.
وفي منتصف مارس (آذار) 2020، ذهبت تقديرات منظمة العمل الدولية إلى وجود سيناريوهين يضربان العمالة الدولية بسبب الوباء العالمي، حيث قدّر السيناريو الأول، وهو المتفائل، الزيادة في عدد العاطلين المتوقع بنحو خمسة ملايين شخص، أما النظرة التشاؤمية فقدرت وصول عدد المتضررين بالأزمة الذين سينضمون لصفوف العاطلين إلى نحو 25 مليون شخص.
تبعا لذلك، حدد تقرير مستقبل العمل الأولويات المستقبلية، بما في ذلك العمل على مزيد من الاستثمار في التعلم مدى الحياة، وضمان الحماية الاجتماعية، وضمان عام للعمل بأجر معيشي كافٍ ومُلائم لنفقات المعيشة، وكذلك وضع حد أقصى لعدد ساعات العمل، وحماية السلامة العامة والمحافظة على الصحة أثناء العمل.
يقول رايدر، "نحن بحاجة إلى بيان موجز سياسي واستراتيجي بشأن التطورات والقضايا الناشئة والمتعلقة بمستقبل العمل، وكذلك إلى معرفة ما الذي يجب على منظمة العمل الدولية فعله من أجل مواجهة هذه التحديات"، مشيرا إلى ضرورة "إيضاح ما هي الإجراءات المتوقعة سواء من قِبل كل بلد على حدة أو من قبل التعاون الدولي".
آلية التكيف في ظل التحديات
يقول إبراهيم عوض، أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأميركية بالقاهرة، "جميعنا يعلم أن عالم العمل يتغير، وأن سرعة وحجم وعمق التحولات التي نشهدها اليوم غير مسبوقة. وثمة إجماع واسع على أن العالم على أبواب الثورة الصناعية الرابعة، لكن ثمة مخاطر في أن تهيمن التغيرات التكنولوجية، كالرقمنة والروبوتات، على الحوار بشأن مستقبل العمل بصورة تُقصي جميع العوامل الأخرى".
يضيف، "نعلم أن التغيرات الحديثة ستخلق فرص عمل وتدمر أخرى، لكن ميزان الأرباح والخسائر لهذه الصيرورة من الهدم الخلاق لا يزال موضع خلاف، والمهمة الأساسية تبقى في كيفية إدارة الابتكار التكنولوجي بما يحق أعلى فائدة اجتماعية".
وبحسب عوض، "في ظل هذه الظروف الجديدة، ينبغي ابتكار أشكال جديدة لحماية العمال وحقوقهم فضلا عن بيئة العمل، وتطويع الظروف الحالية ممثلة في الرقمنة والعمل عبر التكنولوجيا لخدمة الأطراف كافة".
وأوضح، "يبقى هناك تساؤل رئيس في هذه الناحية، يتمثل حول مدى اختلاف القوانين في كل بلد عن الأخرى، ومدى لجوئها للمنظومة الرقمية، إذ أصبحت مسألة الإنتاج تتسم بشكل غير تقليدي وتمر عبر عدد من الدول وليس دولة واحدة، وعليه على من تقع المسؤولية الأخيرة فيما يتعلق بحقوق العمالة وغيرها؟". داعيا إلى المزج بين الأشكال القديمة والجديدة غير نمطية لخدمة الأطراف الثلاثة في العمل.
وفي السابع من أبريل (نيسان) الحالي، توقعت دراسة لمنظمة العمل الدولية، أن تؤدي أزمة وباء كوفيد 19، التي كشفت مدى قدرة العمالة والمؤسسات على التحول رقمياً وفق متخصصين، إلى إلغاء 6.7 في المئة من إجمالي ساعات العمل بالعالم في النصف الثاني من عام 2020، أي ما يعادل 195 مليون وظيفة بدوام كامل. مشيرة إلى أنه من المتوقع حدوث تخفيضات كبيرة في الدول العربية (8.1 في المئة، أو قرابة 5 ملايين عامل بدوام كامل)، وأوروبا (7.8 في المئة، أو 12 مليون عامل بدوام كامل) وآسيا والمحيط الهادئ (7.2 في المئة، أو 125 مليون عامل بدوام كامل). كما توقعت حدوث خسائر فادحة بين مختلف فئات الدخل، وبشكل خاص في بلدان الشريحة العليا من الدخل المتوسط (7.0 في المئة، 100 مليون عامل بدوام كامل). وهذه الأرقام أعلى بكثير من آثار الأزمة المالية لعام 2008-2009.
ومن شأن فقدان الاقتصاد العالمي، لهذه النسبة من ساعات العمل، أن يلقي بظلاله السلبية على معدلات النمو الاقتصادي، التي قد تفوق معدلات تراجعه، عما هو متوقع من قبل البنك والصندوق الدوليين.
وقال غاي رايدر، المدير العام لمنظمة العمل الدولية، "يواجه العمال والشركات كارثة في الاقتصاديات المتقدمة والنامية على حد سواء. علينا أن نتحرك بسرعة، وبشكل حاسم، ويداً واحدة. فالتدابير السليمة والفورية تصنع الفرق بين النجاة والانهيار".
وبحسب أحمد غنيم، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، والاستشاري بعدد من الهيئات الدولية بينها البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، "تتأثر التغيرات سواء على المنشآت أو أصحاب الأعمال والحكومة، بما يعرف النموذج الاقتصادي واختلافه. وأظهرت أزمة كورونا الحالية أن القادر على التواصل عبر الإنترنت وتطويع التكنولوجيا الحديثة هو الرابح الأكبر".
يضيف، "أدبيات العمل القديمة ينبغي تغيرها، وهذا ما تعمل بشأنه المنظمات الدولية والحكومات، لكنها تبقى متأخرة عن الاستعداد لمواجهة التحديات الملحة والعاجلة".
هل من دور باقٍ للنقابات العمالية؟
تمتاز منظمة العمل الدولية عن غيرها من المنظمات الدولية، بأنها اعتمدت مبدأ الثلاثية (العمال وأصحاب العمل والحكومات)، وعليه فإن النقابات العمالية فاعل مهم في المنظومة الاقتصادية. ووفق ميثاق المنظمة، وما يعرف بإعلان فيلادلفيا في عام 1944، الذي حدد أهداف وأبعاد المنظمة، ودُمجَ هذا الإعلان بدستورها، وأصبح جزءاً منه في عام 1946، وهو ذلك العام الذي أصبحت فيه العمل الدولية أول وكالة متخصصة في منظمة الأمم المتحدة، ودور النقابات عن طريق مشاركتها في صياغة المعايير واعتمادها على المستويَيْن الوطني والعالمي.
وانطلاقاً من أهمية الدور الذي تضطلع به النقابات العمالية وفق دستور المنظمة، في صياغة المعايير الدولية واعتمادها، فقد دعت بضروة أن تكون هذه النقابات مستقلة في التأسيس، وإدارة نشاطها، وأن يكون ممثل العمال ممثلاً فعلياً لهم، يعبر عن إرادتهم الحقيقية. لكن وفق متخصصين يبقى السؤال، حول قدرة تلك النقابات العمالية الوقوف إلى جانب العمال وحقوقهم؟، وما إذا كانت التغيرات الجديدة غيّرت المتحكِم في حقوق العمال واحتياجات سوق العمل؟.
يجيب إبراهيم عوض، "اختلفت بيئة العمل في العصر الراهن، لكن لا تزال النقابات العمالية عاملاً رئيساً في حماية العمال وحقوقهم". وبحسب عوض، "تعد إحدى المعضلات الرئيسة في هذا السياق هي أن خطوط الإنتاج والصناعة باتت خطوطاً طويلة تمر عبر عدد من البلدان، تختلف في القوانين المتبعة في كل منها، فضلاً عن أن من يعمل بشكل رقمي يختلف عن العمل بشكل يدوي، وهو ما كانت النقابة تدافع عنه في السابق. وهنا يكمن الاختلاف".
يتابع، "كل بلد يخضع لتنظيم العمل فيه، لكن إجمالاً وجود نقابات قوية تلعب دوراً مهماً في مواجهة أصحاب العمل، يعني حماية مصالحهم وحقوقهم، وهو ما يبقى متناسباً مع قدر التطويع الذي يمكن استخدام التطورات الراهنة في خدمة بيئة العمل بأطرافها".
في المقابل يقول محمود نجم، الباحث الاقتصادي، "التطور الرقمي والتكنولوجي طوّر شكلاً من أشكال العمالة ليس لها نقابات منظمة، ولا يمكن أن تخضع كلها لنقابات، ففي الاقتصاد التشاركي وجد نموذج للعمل ضد مفهوم النقابات".
يضيف، "لا توجد نقابات منظمة لكل الاقتصاد التشاركي، كما أن نموذج العمل وطبيعته بها ضد النقابات، كما أن معدل النمو في العالم باتت تقوده الدول ذات العمالة الرخيصة والمنخفضة، وهو ما يضع جوهر عمل النقابات في أزمة". موضحاً، "تبقى في النهاية النقابات العمالية، يختلف عملها من دولة لدولة، ومع التطورات التي تحدث بالعالم، فإنها تؤثر في الدول القديمة بالتنظيم".
في الاتجاه ذاته، يعتبر أحمد غنيم، أن "الأزمات الكبرى التي يمر بها الاقتصاد العالمي تشير إلى الاختلاف في حقوق العامل، فضلاً عن الحكم على العامل، هل يتعلق بساعات العمل أو الإنتاجية وكيف يمكن حساب ساعات العمل في عالم الرقمنة، في المقابل في حالة العمل عبر الفضاء الإلكتروني هل يحق لعامل انتقاد رئيسه؟ وكيف يمكن اللجوء إلى جهة لاستعادة وضبط حقوقه؟"، معتبراً "كل هذه الأمور لم يتم ضبطها بشكل كامل بعد، ونحن نعيش في زمن جديد".
ووفق ما نقل الموقع الإلكتروني لمنظمة العمل الدولية عن نائب المدير العام غريغ فاينز، فإنه "إذا لم يتجه مسار التاريخ الطويل نحو العمل اللائق والعدالة الاجتماعية، فقد يعود في الاتجاه المعاكس. وأن المستقبل ليس مرسوماً لنا مسبقاً. والعمل اللائق للجميع  أمر ممكن، لكن علينا أن نعمل على تحقيقه. فالضرورة تقتضي أن نتحكم بموجة التغيير، لا أن نكتفي بمقاومتها".
ووفق متخصصين فإن منظمة العمل الدولية، التي نالت جائرة نوبل للسلام عام 1969، في ذكرى تأسيسها الخمسين، لعبت دوراً في محطات اقتصادية كبرى طوال القرن الماضي، مثل الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، فضلاً عن أغلب الأزمات الاقتصادية الكبرى التي واجهها العالم، وكان  آخرها الأزمة المالية العالمية في 2008- 2009، والأحداث الراهنة لجائحة كورونا وتداعياتها الاقتصادية عالمياً.

إرسال تعليق

التعليقات

جميع الحقوق محفوظة

رنان

2020