في الخبر أن غالبية اقتصادات العالم قررت التمرد على الفيروس التاجي، بل وعدم الاستكانة لتهديداته بالانتشار وترك مزيد من الإصابات وحتى الوفيات. وفي الوقت الذي طفقت دول أوروبا إلى إعادة فتح اقتصاداتها، والعودة إلى الاقتراب والتواصل الدولي المشترك، بل وفتح كافة قطاعات الاقتصادات، والسماح بالسياحة وانتقال السائحين بين الدول، وانطبق الأمر ذاته على دول أمريكا الشمالية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، وهي الأكثر تسجيلاً للإصابات على مستوى العالم، بل والأكثر في أعداد الوفيات، ونسبها. وفي أمريكا اللاتينية، حيث أظهرت النتائج مثلاً أن البرازيل، التي تعتبر ثاني أكثر المتأثرين بالوباء حول العالم، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، والتي شهدت ما يزيد على 1400 حالة وفاة في يوم واحد منذ يومين، ليصل الرقم الكلي للوفيات إلى ما يزيد على 21 ألف حالة، فقد قررت الحكومة العودة إلى الحياة الطبيعية في شتى مجالات الحياة وقطاعات الاقتصاد. فلم يعد بالإمكان تحمل نتائج الرضوخ لتهديدات ذلك الوباء. وبعد تدقيق شديد بالنتائج، فإن الحقائق على أرض الواقع، وفقاً لنظرية الاحتمالات، تقول إن نسبة إصابة أي شخص بالوباء، أو حمله، هي في المطلق في حدود 7%، أي أن احتمالية عدم الإصابة والتقاط الوباء تصل الى نحو 93%، وهي نسبة شاملة للدول التي طبقت نظرية مناعة القطيع، وكذلك التي لم تطبقه على حد سواء.
والأهم، أنه حتى وإن تحققت الإصابة، فإن نتائج معظم دول العالم تقول إن الوفاة لا تتحقق لأكثر من 6% من المصابين الذي لا يشكلون أكثر من 7% من سكان الأرض، أي نحو 4 في الألف من المصابين، في حال كانت مناعتهم ضعيفة، وذلك في أسواء الأحوال. واليوم على الدول أن تقرر، ما إذا كانت سترهن نموها، وتنميتها، وحركة اقتصادها، وعجز موازناتها، ومديونيتها الداخلية والخارجية، والأهم والأخطر تحمل مزيد من البطالة، بفيروس غير مرئي، يهدد بوفاة أقل من 5 في الألف من سكان العالم، ذلك أن اجمالي من فقدوا حياتهم من هذا الوباء، حسب أخر التقارير، هم نحو 338 ألف شخص من ما يزيد على سبعة مليارات قاطن على سطع الأرض، أو من نحو 5 ملايين مصاب فعلي في كافة دول العالم.
الفيروس الذي يصر على أخذ المجتمعات والاقتصادات رهائن، بات يمثل حالة إرهاب صحي واجتماعي، وطغى ليصبح أكبر إرهاب وتخويف يضرب عصب الاقتصادات العالمية. على الجميع أن يعي اليوم إن الموافقة العمياء على الترهيب الذي تفرضه متطلبات ذلك الوباء، الذي يرتهن له العالم عبر توصيات المتعاملين معه، دون الاهتمام بحجمه الحقيقي وقوته، هو مسير نحو الهاوية الاقتصادية، وهي خطورة ستترك ضحايا أكثر بكثير من ضحايا الإصابة بالوباء، عبر حروب قد تنشأ بين الدول، أو حالات ثورات اجتماعية، لا يُحمد عقباها.
ولعل أكبر تهديد ستتعرض له الدول أجمع، يتمثل في خطر البطالة، بين كافة شرائح المجتمع، وبخاصة فئة الشباب.
والسؤال من هي الأنظمة الاقتصادية القادرة على الرضوخ لمتطلبات إرهاب ذلك الوباء، وتحمل مزيد من التوقف، والموت الاقتصادي البطيء، وما يخلفه ذلك من جيوش متنوعة من العاطلين عن العمل الهائمين في الشوارع، الباحثين عن أي مصدرٍ، شرعي أم غير شرعي، لتأمين قوت يومهم؟!. وما هي الفترة التي يمكن للعاطلين عن العمل أن يتحملونها دون مصادر دخل حقيقة، ومستقرة، بل ومناسبة؟ أين هو الاقتصاد الذي سيتمكن من قبول مزيد من نسب البطالة، إضافة إلى صفوف البطالة، وطوابير الصف الخامس من المتعطلين، التي كانت متواجدة أيضاً قبل الهجوم الفيروسي على العالم، وقبل أن يختطف كوفيد-19 اقتصادات العالم اجمع، ويحولها إلى رهائن يتحكم بمصيرها عبر بعض القائمين على الشأن الصحي والوقائي، المستكينين إلى التخوف، والتحذير، والرهبة الزائدة غير المبررة احياناً، وقد تجلت لدى البعض فكرة الجيش الأبيض، وخط الدفاع الأول، وتقمص حالة الحرب والمقاومة، متناسين تماماً، أو غافلين، أو غير ابهين، أو غير شاعرين بخطورة المصائب النسبية العالية التي تضرب الاقتصاد الكلي، بمؤشراته، من بطالة، ومديونية، واستقرار نقدي، وعجز مالي، أو الاقتصاد الجزئي، بما يفرزه اليوم من عمليات إفلاس، وخروج من الأسواق، وانهيارات مؤسسية، .
تدهور إنتاجية المؤسسات الخاصة والعامة، أو حتى الاقتصاد الفردي، وما نشهده من تبخر للدخول، وتسريع التخلص من الافراد في مؤسساتهم، وتعطل كل من كان يعمل لحسابه الخاص، سواء أكان في وظيفة حرفية، أو في أعلى مستويات الاستشارات العلمية والتطبيقية. البطالة التي كانت تصل بين صفوف الشباب في الدول المتقدمة، في المتوسط، نحو 12%، وفي الدول النامية، في المتوسط، 26%، وترتفع لتصل الى نحو 30% في بعض الدول، خرجت اليوم عن الضبط، وانفلت عقالها، وهي اليوم نسب وأرقام لم يعد من الممكن إحصاءها، أو حتى حساب تطورها اليومي.
فالغالبية العظمي من العاملين لحسابهم الخاص في حالة بطالة، وأكثر الشركات قدرة على العمل تستغني عن جزء ليس ببسيط من عمالتها، لانخفاض مستوى الطلب الكلي في معظمه. أما الشركات الصغيرة والمتوسطة، فهي تحت مطرقة السيولة الشحيحة، وسندان التباطؤ الاقتصادي المحلي والعالمي. والدول المستوردة للعمالة باتت تبحث اليوم عن سبل إعادة تلك العمالة إلى دولها. البطالة اليوم، في أعتى وأهم اقتصادات العالم، باتت تحمل منزلتين عشريتين، أي انها تفوق 10% في معظم الدول المتقدمة، وتكاد تتجاوز 20% في باقي الدول.
مصادرها، بطالة تراكمية سابقة، وبطالة احتكاكية جديدة، وبطالة تباطؤ اقتصادي ناتج عن الدورة الاقتصادية، وبطالة موسمية ووبائية، ناتجة عن الموسم القائم والوباء الحالي الذي تواجهه الدول، وبطالة مستوردة في الاقتصادات المستوردة للعمالة، وبطالة عائدة في الدولة المصدرة للعمالة. والسؤال ما هي حلول التعامل مع بطالة كورونا، أو 'بطالة الارتهان للهلع من الوباء'. ويمكن القول إن متطلبات الحد من البطالة تبدأ أولاً بضرورة العودة إلى تشغيل القطاعات الاقتصادية، والخروج من حالة الرضوخ الكامل لتهديدات إرهاب كورونا غير المجدية، ما يعني ضرورة تشغيل كافة قطاعات الاستهلاك المحلي، سواء أكانت سلعية أم خدمية.
والفيصل هنا أن مخاطر اتخاذ هذا القرار تتعلق بنسبة واحتمالية الإصابة في الدول، وعليه فإن الخروج من تراكمية البطالة وزيادة حدتها تكمن ببساطة في إعادة تشغيل قطاعات الإنتاج المحلي، وقطاعات التصدير، وقطاعات التجارة، وقطاعات الخدمات الخاصة والعامة، أي تشغيل كافة القطاعات التي تم تعطيلها خوفاً من انتشار الوباء، مع الأخذ بعين الاعتبار كافة وسائل الحماية والوقاية الاحترازية. وبفكر المغانم والمغارم، أو بفكر نظرية الألعاب في الاقتصاد، فإن القضية منحصرة تماماً باحتمالية الإصابة، والتي لن تتجاوز 6% حتى في أكثر دول العالم تأثراً بالوباء، أي أن هناك احتمالية لا تتجاوز 6% أن يصاب الفرد، مقابل 94% أن لا يصاب، ما يعني أن المغانم أكبر من المغارم، ناهيك أنه حتى في حال تحققت احتمالية الإصابة، فإن اقل من 2% هي نسبة الوفاة بين افراد المجتمع. وبحسبة نظرية الألعاب الصفرية، يبقى السؤال ايهما أخطر في مغارمه على المجتمع تحمل إحتمالية اقل من 2% وفاة، لا سمح الله، وهي احتمالية قد لاتتحقق، أم خسارة وظائف تتجاوز 50% من القوى العاملة في البلاد وما يترتب على ذلك من تبعات ومغارم اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، بل وعدم استقرار مجتمعي؟ بيد أن إعادة تشغيل القطاعات سيحل أو سيحد فقط من بطالة من كانت لديهم وظائف وكادوا أن يفقدوها، وخاصة في قطاعات الاستهلاك المحلي والخدمات، ما يعني أن بطالة بعض القطاعات المتأثرة سلباً، مثل السياحة، وبطالة العمالة العائدة، وبطالة العمالة المستوردة، وبطالة القادمين الجدد إلى سوق العمل بقيت معلقة.
وهنا لا بد من الركون إلى مجموعة من الحلول العملية، لتشغيل هؤلاء، وتوفير فرص العمل لهم، لأن الاكتفاء بمنحهم معونات مالية لن يكون إلا بمثابة مسكنات غير فعالة وغير مجدية.
ناهيك عن خطورة ذلك على المالية العامة، وعدم القدرة على استدامته لفترات طويلة. وهنا تبرز أهمية قضايا ثلاثة للتعامل مع هذه الأنواع من البطالة. القضية الأولى، تشجيع التعاونيات في مجال الزراعة والإنتاج الزراعي بمفهومه الشامل، بما في ذلك الثروة الحيوانية والسمكية، والتصنيع الغذائي، بل واجتراح أنواع جديدة من التعاونيات مثل تعاونيات الخدمات اللوجستية، بما فيه خدمات النقل، والصيانة، والترتيب المنزلي، والخدمات الطبية المساندة، وخدمات التوصيل المنزلي، وخدمات التعليم عن بعد، وتعاونيات الصناعات الصغيرة في المجالات المطلوبة، من مستهلكات طبية، ومنزلية، وتعاونيات الاستهلاك الغذائي المنزلي، من منتجات منزلية، مشتقات ألبان، ووجبات سريعة، مقبلات منزلية ، وخدمات المنازل، وغيرها، وتعاونيات التطبيقات الذكية، والصناعات المنزلية البسيطة، بما فيها المحيكات، والتطريز، والعلاج الطبيعي المنزلي، وخدمات الضيافة المنزلية، والصناعات الخفيفة المرتبطة بخدمات الضيافة المنزلية، وخدمات الحضانات التعليمية، وخدمات توفير الطلبات للمنازل.
وتعاونيات المشغولات اليدوية والحرفية. أما القضية الثانية، للحلول العملية للبطالة الوبائية فهي في تقديم الدعم التمويلي والفني للمشاريع الصغيرة والمتوسطة للعمل داخل الدولة وخارجها، وتقديم الدعم الكافي لبناء قدرات أصحابها، بل والسماح للجميع التسجيل في التأمينات الاجتماعية، مع تأجيل الشمول لمدة عامين، وهو أمر يمكن تطبيقه حتى على المؤسسات القائمة التي تقوم بتوظيف البطالة القائمة والمتراكمة من الوباء. وأخيراً وليس أخراً، تأتي القضية الثالثة، حيث لا بد من تقديم حوافز مجدية لجذب استثمارات محلية وخارجية في القطاعات الواعدة، مثل الصحة والغذاء والزراعة والسياحة العلاجية وتكنولوجيا المعلومات والرقمنة، بحيث تتوسع تلك الاستثمارات، أو تنشأ استثمارات جديدة فتؤدي إلى تشغيل العمالة العاطلة عن العمل والمتعطلة نتائج الوباء.
لا بد من حوافز تتعلق بكلف الإنتاج، من طاقة، ومن تحمل كلف العمالة جزئيا، من تأمين صحي، وتأمينات اجتماعية، وتقديم مساحات أراضي شبه مجانية، أو تأجيل دفع أيجار الممتلكات والعقارات الصناعية لمدة 3 أعوام على الأقل، أو تقديم حوافز ضريبية محدودة وضمن قطاعات محددة أو مناطق مستهدفة. التعامل مع قضايا البطالة هي المحدد الرئيس لنجاح الدول في التعامل مع ما فرضه الوباء عليها، والفشل، لا سمح الله في ذلك، سيكون أكثر حدة وسوءً ومرارة على الدول، من الفشل في احتواء الوباء، وعلى الدول أن تعي ذلك قبل فوات الأوان. ومن الواضح أن صنّاع القرار حول العالم المتقدم قرروا وقف التفاوض مع إرهاب كورونا، ووقف الاستجابة لشروط القائمين عليه، وبدأت عملية إعادة تشغيل الاقتصادات وفتح القطاعات المختلفة دون قيد أو شرط، مع الحفاظ على متطلبات الصحة والسلامة الوقائية الاحترازية، وعلى دول العالم الأخرى أن تحذو حذوهم دون تأخير.
إرسال تعليق