الراصد النقابي لعمال الأردن "رنان" - حاتم قطيش
اذا ما أردنا تبسيط علاقة العمل بين العامل وصاحب العمل فيمكننا وصفها بأنها مقايضة بين طرفين طلباً للمنفعة؛ فصاحب العمل منفعته بالانتاج وزيادة الربح ويمتلك في ذلك المال وينقصه الجهد والخبرة التي يمتلكها العامل والذي بدوره يقايض بها من أجل الحصول على المال والعيش الكريم، وبذلك يجب النظر لعلاقة العمل على أنها علاقة طرفي الانتاج التكاملية المتكافئة ويصبح زيادة الانتاج هدفاً للعامل كما هو هدفاً لصاحب العمل، فكلما زاد حجم الكعكة ازداد نصيب العامل منها.
ان الشعور بالظلم والاضطهاد والعمل بظروف قاسية غير لائقة وطغيان الطرف الأقوى من طرفي الانتاج - صاحب العمل- على الآخر كانت هي الشرارة التي أطلقت الثورة الصناعية والتي ثار فيها العمال ليحافظوا على كرامتهم واستدامة مصانعهم لتأمين لقمة عيشهم، ولقد كان من ثمرة هذه الثورة تأسيس وانطلاق النقابات العمالية التي حملت لواء الدفاع عن العمال وصيانة حقوقهم ومكتسباتهم.
لقد سقطت كل النظريات التي تتحدث عن ضرورة ابقاء العامل تحت الضغط ليعطي كل ما عنده بل على العكس فإن الثابت أن الحالة النفسية للعامل تشكل ما يمكن وصفه بأنه "هرمون العمل " فكلما تحسنت الحالة النفسية وشعر بالاستقرار زاد انتاجه وتحسن أداؤه.
الأمان الوظيفي يحتاج قوة تحميه؟
ان من الشعارات التي طالما يتداولها الحقوقيون بشكل عام والنقابيون بشكل خاص هو أن " الحق ينتزع انتزاعاً"، فالطبيعة البشرية غير المنضبطة بدين أو اخلاق أو مبادئ والتي حدثنا عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز تعمل ضمن قاعدة " ان الانسان ليطغى، أن رآه استغنى"، فترى بعض أصحاب العمل يبدأ طغيانهم على العمال بالظهور فور شعورهم بامكانية الاستغناء عنهم خاصة اذا ما كان هؤلاء العمال "مكشوفي الظهر" لا سند لهم.
يمكن تشبيه العمال المنفردين كأعواد الرماح المتفرقة اذا ما كانت منفردة متشتتة بقيت على ضعفها وكانت فريسة "طغيان" أصحاب العمل؛ فالنقابات العمالية هي التي تجمع هذه الطاقات المتفرقة لتكون منها ما يسمى ب قوة العمال التي تمكّنها من انتزاع الحقوق والحفاظ على المكتسبات.
النقابات العمالية والتشريع
ان السلاح القوي والمستدام الذي يمكن للنقابات العمالية استخدامه في مواجهة شبح التسريح ولتحقيق الأمن الوظيفي للعمال هو تعديل التشريعات الوطنية بما يتناسب مع الاتفاقيات الدولية وحقوق الانسان؛ مما يوفر بيئة عمل آمنة للعمال تمكنهم من تحصين وظائفهم والحفاظ على أجورهم وابعاد شبح البطالة عن عقولهم، فالدولة تضبط ايقاع مواطنيها بالتشريعات الراسخة ولعل من أبرز أدوار النقابات العمالية في خلق بيئة عمل آمنة وتحقيق الأمن الوظيفي للعمال هو ايجاد تشريعات وطنية تحفظ لهم هذا الحق وتبسُط التوازن والاستقرار في عالم العمل، فباستقرار عالم العمل يزيد الانتاج وتحد من البطالة ويتحقق السلم المجتمعي ويلتفت العمال وأصحاب العمال الى دورهم الأساس في تنمية بلدانهم.
في الانتساب قوة
النقابات هي القلاع الراسخة الحصينة التي يلوذ اليها العمال ابتغاء استردادا حقوقهم والحفاظ على مكتسباتهم فبقوة هذه النقابات تتمثل قوة العمال.
ان قوة النقابات العمالية الفعلية تكون على الأرض من خلال استجابة العمال لبياناتها وتوجيهاتها والاضرابات التي تدعوا لها، وان أبرز مؤشر على قوة هذه النقابات هو نسبة تمثيلها للعمال فكلما ازدادت نسبة انتساب العمال للنقابات العمالية يدرك صاحب العمل أن هذه النقابات تعبر حقيقة عن ارادة العمال وتحوز ثقتهم وتملك الحديث باسمهم.
من الناحية الواقعية لا يمكن أن نصل الى حالة انسجام تام بين عموم العمال والنقابات العمالية لا سيما أن القيادات النقابية يتم اختيارها بالانتخاب المباشر من العمال وبالتالي فإنه من الطبيعي جداً أن يكون هناك اختلاف وجهات نظر بل وتيارات وتوجهات مختلفة داخل النقابة الواحدة، ولكن ان أدرك العمال أن تحسين أجورهم والحفاظ على حقوقهم وتحقيق الأمان الوظيفي لهم مرتهن بقوة نقابتهم فإنهم سيلتفون حولها ويكونون داعمين لقراراتها.
الحوار الاجتماعي و المفاوضة الجماعية
ان الصورة النمطية المنطبعة عن النقابات العمالية أنها نقابات لا تتقن الا الاضرابات والاعتصامات والاحتجاجات، ومع التأكيد أن الاضراب هو حق عمالي نقابي كفلته الاتفاقات الدولية الا ان هذا الحق يجب التعامل معه من خلال قاعدة " آخر العلاج الكي"، فاللغة الحضارية في انهاء الخلافات في عالم العمل هي الحوار الاجتماعي الذي يعد الوسيلة المثلى للدخول في مفاوضة جماعية بين أطراف الانتاج على مبدأ "رابح رابح" فتتحقق المصلحة العامة ويضمن صاحب العمل زيادة الانتاج ويستقر العامل في وظيفته وتطمئن بها نفسه وترتفع انتاجيته.
تسعى دول العامل الى مأسسة الحوار الاجتماعي و المفاوضة الجماعية المكفولان في اتفاقيات العمل الدولية، وبما أننا نتحدث عن المأسسة والمؤسسية فإن هذا الأمر يتطلب كيان عمالي نقابي يتقن هذه الفنون ويستثمرها ويبني عليها، ومن أحق من النقابات العمالية في تمثيل ارادة عمالها والتحدث باسمهم والتفاوض وتحقيق أمنهم الوظيفي.
عقود العمل الجماعية
ان ما يجب أن ينتبه له ممثلو العمال هو عدم التماهي في الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية دون خطة مسبقة ومدروسة ومقرة، حتى لا نقع في مطب التفاوض من أجل التفاوض والحوار من أجل الحوار.
ان ثمرة الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية التي تقودها النقابة باسم العمال يجب أن تفضي الى ابرام عقود عمل جماعية تضفي على الحقوق العمالية المقرة القوة القانونية التي لا يستطيع صاحب العمل التنكر لها في المستقبل وتكون ملزمة للطرفين، ومن هنا وجب على النقابة ادراج بنود محددة وواضحة في عقود العمل الجماعية التي تتفاوض من أجلها تتعلق بالأمان الوظيفي فلا يترك الأمر لمزاجية صاحب العمل أو حتى خلفه القانوني -في حال تم بيع الشركة على سبيل المثال- فبفضل عقود العمل الجماعية يطمئن العمال أن صاحب العمل ومن سيخلفه ملتزمين بقوة القانون وبفضل عقد الجماعي الذي أبرمته لهم نقابتهم.
تصعيد وحصانة
ان المتابع للشأن العمالي والنقابي وسوق العمل ليعلم علم اليقين أننا عندما نتحدث عن الحوار الاجتماعي والمفاوضة الجماعية والعمل اللائق وغيرها من العناوين الجميلة والبراقة؛ قد تصطدم في كثير من الأحيان بعوائق كثيرة توجه رياح الحقوق العمالية بغير ما يشتهي العمال أو تشتهيه نقابتهم، فالواقع يقول أن الحوار قد يصل الى طريق مغلق والمفاوضة قد تولد ميتة وأن الحديث عن عقد عمل جماعي هو من باب الترف الفكري في ظل تعنت بعض أصحاب العمل وتعسفهم في استخدام النصوص القانونية.
ان خوف العمال على وظيفتهم وقلقهم الدائم للحفاظ عليها وفي ظل عدم وجود نقابات عمالية قوية تدافع عنهم ليدفع بالعديد منهم الى قبول العمل في بيئة عمل غير آمنة لا يتحقق فيها شروط العمل اللائق بل ووقوعهم ضحايا للعمل الجبري.
كنا قد تحدثنا في هذا المقال عن قوة العمال وأدوات التصعيد التي يملكونها للدفاع عن حقوقهم، ولكن العامل لن يغامر بالتصدي لصاحب العمل والدفاع عن بقية العمال حتى لا يكون كبش فداء، فترى العمال من انكسار الى انكسار ومن خوف الى خوف.
ان اللجوء الى التصعيد ورفع الصوت عالياً لا يحتاج فقط الى جرأة وصفات قيادية لدى بعض العمال؛ ولكنه يحتاج أيضاً الى حصانة تمنع صاحب العمل من معاقبته بسبب نشاطه النقابي، ومن هنا يأتي أهمية انتساب العمال للنقابات العمالية التي ستدافع عنهم وتهيئ لهم الغطاء القانوني للتصعيد وتمنح القيادات العمالية النقابية حصانة مكفولة من الاتفاقيات الدولية.
ان الحق يحتاج الى قوة تحميه والعامل بحاجة الى ركن شديد يركن اليه ومجاديف الظلم بحاجة الى أمواج عاتية تحطمها، وقد آن الأوان ليعلم العمال أهمية النقابات العمالية بالنسبة لهم بل وأهميتهم في قوتها وتعزيز مكانتها، فإن شعروا بأن من يعتلي سدة القيادة فيها قد حرفها عن مسارها لم يتخلوا عنها بالانسحاب والانكفاء بل سارعوا الى ردها الى جادة الصواب بانتخاب قيادة جديدة تعبر عن ارداتهم وتعيش ظروفهم وتحافظ على حقوقهم.
إرسال تعليق