مع بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة التي نعيشها تواجه شعوبنا العربيه العديد من التحديات التي فرضتها المتغيرات والمستجدات على الساحة الدولية، والتي يمكن اختزالها في العولمة والتقانة المتقدمة والانفتاح الإعلامي والانفجار المعرفي في مجال تكنولوجيا المعلومات والثورة الصناعية الرابعة والتكتلات الاقتصادية والثقافية وماافرزته جائحة كورونا من تاثيرات سلبية على اقتصاديات الدول وخططها التنمويه . وهذه المستجدات وغيرها تشكل تحديات ثقيلة ينبغي على دولنا العربية التعامل معها وفق اليات واستراتيجات تنطلق من رؤية واقعية وعمليه والتركيز على الميادين التي يمكن ان تلعب دوراً مهماً في مواجهتها.
وبالنظر للمكانة الاساسية التي تتبوؤها المؤسسات التربوية والتعليمية في عالمنا المعاصر باعتبارها البيئة العلمية المؤهلة لامداد مؤسسات الدولة والمجتمع بالموارد البشرية الكفوءة والمقتدرة في تحقيق التقدم بكافة ميادين الحياة والتي تعد مصنعاً للثقافة والمعرفة . وباتت اهدافها لن تعد ترفاً مجتمعياً لأعداد موارد بشرية ومنحهم شهادات في اختصاصات مختلفة لشغل الوظائف في سوق العمل بل اصبحت خياراً استراتيجياً في اطارمنظومة استثمار وتنمية الموارد البشرية لمواجهات تحديات الالفية الثالثة ، ولأن تؤدي دوراً ريادياً وقيادياً في احداث تحولات جذرية هادفة في بنية المجتمع وتطوره اقتصاديا واجتماعياً وحضارياً.
ومن أجل مواجهة هذا الواقع ليس لنا من خيار سوى إيلاء اهتمام اكبر ومتزايد لقطاع التربية والتعليم وبالاخص منظومة التعليم المهني والتقني لأن تؤدي دوراً فاعلاً في مواجهة هذه التحديات وصياغة المستقبل لشعوبنا، لإن المستقبل بكل أبعاده وتحدياته يعتمد على اعداد المواطن المنتج والمبدع، وان تأهيله بكفاءة وفاعلية تمكنه من التفاعل الواعي مع التقدم العلمي والتقني الذي يؤثر بشكل مباشر على واقعنا الاقتصادي والأجتماعي .
ان واقعنا العربي يعاني جملة من الاختلالات وعدم الاتزان الهيكلي في كافة الجوانب الحياتية وتتمثل هذه الاختلالات في ثلاثة ابعاد اساسية هي منظومة التربية والتعليم فى علاقتها مع مؤسسات سوق العمل، واجهزة البحث والتطوير العلمي والتقني،و القيم والسلوكيات المجتمعية والثقافية , وبين هذه الابعاد الثلاثة علاقات تاثيروتأثر وتفاعل متبادل . ويكون تركيزنا في هذا المقال على الجانب التريوي والتعليمي وبالتحديد التعليم المهني والتقني كمنظومة فرعية من المنظومة التربوية فى تفاعلها مع مؤسسات سوق العمل الإنتاج ، وباعتبارها الركيزة الأساسية للتنمية بكافة ابعادها الاقتصادية والاجتماعية.
عرفت منظمة العمل العربية التعليم المهنى الفنى بأنه أحد مسارات التعليم المتاحة للتلاميذ بعد إنهاء مرحلة التعليم الأساسى ، وتتراوح مدة الدراسة فيه بين 2 – 3 سنوات ويستهدف إعداد العمالة المتخصصة لسد احتياجات سوق العمل الوطنى والإقليمى فى مستوى العامل الماهر بحسب مستويات المهارة في التصنيف العربي المعياري للمهن, وتمكين الملتحقين فيه من مواصلة التعليم التقني والجامعي في مجال التخصص المهني . وعرفت "التعليم التقنى" بأنه تعليم جامعى متوسط، يلتحق به الحاصلون على شهادة الثانوية العامه ومدة الدراسة فيه سنتان بالمتوسط، ويستهدف اعداد الخريج فى مستوى العامل الفنى / التقنى بحسب التصنيف العربي المعياري لفئات مستوى المهارة للمهن , وتمكين الملتحقين من مواصلة تعليمهم الجامعي في مجال التخصص التقني .
واتخذت منظمة التربية والعلوم والثقافة " اليونسكو" التابعه للامم المتحدة فى مؤتمرها العام الدورة (31) المنعقدة فى باريس 15 أكتوبر – 3 نوفبر 2001 توصية هامة تتعلق بتطوير وتحسين التعليم المهنى والتقنى وقد ضمنت فيها تعريفاً وأهدافاً لهما والتي نصت فيهما ان التعليم المهني والتقنى يمثلان جوانب العملية التعليمية التى تتضمن بالإضافة للتعليم العام دراسة التكنولوجيات والعلوم المرتبطة بها واكتساب المهارات والمعارف التي تتسم بالطابع العملى فيما يتعلق بالمهن والأعمال فى شتى قطاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية . وفضلاً عن ذلك ينبغي ان يكون التعليم المهني والتقني جزءاً من التعليم العام وسبيلاً للالتحاق بعد التخرج الى قطاع المهن والانتاج واعتباره نمطاً من انماط التعلم مدى الحياة واداة لتعزيز التنمية المستدامة والتخفيف من وطأة الفقر والبطالة وتعزيز المواطنة الصالحة . وعلى هذا يعد التعليم المهني و التقني من أنواع التعليم النظامي، الذي يهدف بالمقام الأول الإعداد التربوي للطلبة وإكسابهم المهارات والمعرفة المهنية، والذي تقوم به عدة مؤسسات تعليمية نظامية هدفها إعداد اجيال من المهنيين والتقنيين المهرة في شتى التخصصات الصناعية والزراعية والتجارية والصحية والفنية... لتلبية احتياجات سوق العمل من الموارد البشرية المؤهلة مهنياً .
ومن خلال نظرة متفحصة ومعمقة لواقع التعليم المهني والتقني في عالمنا العربي نجد انه يعاني من مشكلات كبيرة رغم الشوط الذي قطعاه هذان النمطان التعليميان وما تم تحقيقه من انجازات فانهما ما زالا مقيدان بثقافة المجتمع التي جوهرها ثقافة العيب اتجاه العمل المهني والنظرة الى هذين النمطين من التعليم بشىء من الأزدراء والدونية وذلك لانهما يؤهلان التلاميذ للمهن اليدوية والعمل الحرفي وهذا من شأنه لا ينسجم مع طبيعة الموروث الثقامي والقيم والتقاليد والافكار التقليديةالسائدة التي نشأ عليها المجتمع والتي تعلي شأن التعليم النظري والفكري على العمل الحرفي والتقني .و للأسف، ونحن نعيش القرن الواحد والعشرين ونجد الأعتقاد السائد لدى أولياء أمور الطلاب أن التعليم المهني والتقني لا قيمة له، و يلتحق به الفاشلين من الطلبة في الدراسة الذين لايتمكنون من الحصول على درجات عالية، وليس امامهم من سبيل سوى الالتحاق بالتعليم المهني والتقني. ونتيجة لذلك يلجأ الكثير من الطلبة إلى الالتحاق بالتعليم الجامعي أو الأكاديمي، فنحصد في النهاية جيل كبير من الطلبة في الجامعات بعضهم تخرج والبعض الآخر متكدس في مقاعد الدراسة لم يتمكن من التخرج وانعكاس ذلك على ارتفاع نسب البطالة بين المتعلمين في تلك المجتمعات وزيادة معدلات الفقر .
وبمقارنة اوضاع التعليم المهني والتقني بالتحديات القائمة في الوقت الحاضر وما سيواجههما من تحديات في المستقبل نكاد نجزم بانهما غير قادران على الاستجابه والتصدي لتلك التحديات وذلك لاستمرار هذه الثقافة والتي ما لم تكسر قيودها تبقى معضلة امام التنمية والتطوير.
اضافة الى هذا الموروث الثقافي السائد في مجتمعاتنا العربية فقد ساهمت أنظمة التعليم بشكل كبير في تعزيز تلك النظرة السلبية للمجتمع نحو التعليم المهني والتقني, وذلك من خلال الانظمة والتشريعات التي تجعل من خيار التعليم المهني والتقني في ادنى سلم اولوليات الخيارات المتاحة لدراسة الطالب بل اصبح خيار من لا خيار له بناءً على الدرجات التي يحققها في المرحلة الابتدائية، حيث يلتحق الطلاب ذوي المعدلات العالية بالتعليم الثانوي الأكاديمي، بينما يلتحق من لم يستطع تحصيل معدلات عالية بمدارس التعليم المهني وكذلك الذين لا يحصلوا على معدلات عالية في التعليم الثانوي الاكاديمي بمعاهد ومؤسسات التعليم التقني . هذا فضلاً عن الدور السلبي الذي تؤديه المؤسسات التعليمية التي يجدر بها أن تراعي كلا الجانبين المهني والأكاديمي معًا, فانها توجه جل اهتماماتها نحو التعليم الاكاديمي الجامعي وتتغافل عن أهمية الكنز المدفون "التعليم المهني والتقني”، فيا ترى ولمصلحة مَن تحجيم الدور العظيم الذي يلعبه التعليم المهني والتقني في اقتصاديات وتنمية المجتمعات؟ ولماذا نتعمد تجاهل دور التعليم المهني والتقني في بناء وتطوير المجتمع بكافة ابعاده التنموية والحضارية . بالرغم من الشعور السائد لدى النظم التعليمية العربية بان احد عوامل نهضة وتطور الدول المتقدمة صناعيا ً وتكنولوجياً مثل الولايات المتحدة الامريكية والمانيا واليابان والصين واوروبا ودول شرق اسيا وغيرها يتم من خلال التعليم المهني والتقني، وذلك لانهما يشكلان اهم دعامات التنمية البشرية التي يقوم عليها تطور تلك الدول .
على العكس من ذلك دولنا العربية التي تعاني من المشكلات في ميدان التنمية البشرية الناتجة عن اهمال هذان النمطان التعليميان والذي انعكس بشكل كبير على ضعف الإقبال عليه، وتفادي أولياء الأمور إلحاق أبنائهم وعدم وجود فرص عمل حقيقية أمام الملتحقين بهما بعد التخرج، كنتيجة لانفصال التعليم ومناهجها في تلك المدارس عن سوق العمل وتوجهاته . وقد زادت الفجوة في الوقت الحالي، بين مخرجات التعليم االمهني والتقني واحتياجات سوق العمل، بسبب عدم ارتباط منظومة المنهج التعليمي ببعضها، وضعف التنسيق والتكامل بين قطاع التعليم المهني والتقني ومؤسسات سوق العمل بالاخص في مجال التدريب.
وعموماً , لم تصل معظم الدول العربية وانظمتها التعليمية الى التخلص من هذه النظرة المتخلفة والبالية وتحجيم آثاراها المعرقلة لنمو المجتمع وتطورة رغم التحولات التي تظهر في عديد من المجالات الاقتصادية والأجتماعية . ووفقاً لبعض الدراسات والأبحاث في السنوات الاخيرة حول المشكلات التي تعاني منها منظومة التعليم المهني والتقني في الدول العربية اظهرت جملة أسباب أدت الى ضعف وتدني واقع التعليم المهني والتقني وعدم الرغبة للالتحاق والدراسة فيهما منها :
1 – ضعف التحاق الطلبة في الدول العربية ببرامج التعليم المهني أو التقني .واذا التحقوا بهذين النمطين من التعليم فلا يحصل هذا الالتحاق على الأغلب عن قناعة ورغبة لكونهم يشعرون بالحرج امام اقرانهم والمجتمع بضعف اهمية هذان النمطان من التعليم .
2 – ضعف الادراك المجتمعي وحالة الجهل بماهية التعليم المهني والتقني واهمية مخرجاتهما في تفعيل حركة التنمية الاقتصادية والاجتماعية ، و بناء المجتمع، ويعزى السبب بدرجة اساسية الى غياب الدورالتربوي الذي يتمثل بالإرشاد والتوجيه المهني الذي يفترض ان تساهم بم كافة مؤسسات الدولة وبشكل خاص المؤسسات التعليمية والاعلامية .
3 – ضعف ارتباط مناهج التعليم المهني والتقني بالواقع العملي للمهن االسائدة في سوق العمل، وعدم ملائمة مخرجاتها التعليمية لمتطلبات سوق العمل الملحة، وبالتالي يصبح الطالب الذي يحمل الشهادة المهنية والتقنية غير قادر على الأستجابة مع متطلبات سوق العمل ..
4 - ارتباط فكرة الالتحاق بالتعليم المهني والتقني بالفشل الدراسي لدى الطلبة وأنه لا يؤمن المستوى الاجتماعي والدخل المادي المطلوب ..
إن التحديات الماثلة أمام مجتمعاتنا العربية تفرض الحاجة إلى تكوين قدرات بشرية مؤهلة وقادرة على التكيف والتعامل مع كلّ جديد، فنحن نعيش في عالم يتميّز بديمومة التغيير، مما يفرض مراعاة دؤوبة لاحتياجات الموارد البشرية كأساس جوهري وذلك من خلال سياسات واضحة وجادة لتطوير التعليم المهني والتقني ومنسجمة مع مستقبل الأجيال القادمة.
ولهذا نرى هناك ضرورة إلى أجراء تقويم مستمر للنظم التعليميه يشكل عام والتعليم المهني والتقني بشكل خاص حتى نضمن التجديد والتوافق المستمر مع المتغيرات على الساحة الدولية. ويجب ألا ننسى أننا نعيش في عالم تتلاشي فيه المسافات الجغرافية، وآخذ في التعولم، وهذا يدفعنا الى المناداة بإعادة نظر جادة في نظم التعليم في منطقتنا العربية إذا أريد للتعليم المهني والتقني أن يسهم في تشكيل الرافد االتنموي للمجتمع ومدخل للبناء والتقدم الاقتصادي والاجتماعي . وذلك بوضعه ضمن اولى الاهتمامات والتوجهات الوطنية للدول وفي اطار فلسفة واضتحة ومحدده تترجم الى استراتيجيات ذات مديات مختلفة تنتج عنها برامج ومشروعات ذات اهداف تستجيب لحركة الواقع وايقاع الحياة بشكل فعال .
اقرأ أيضاً:
إرسال تعليق