الإضراب .. حق كفلته المعايير الدولية وقيده قانون العمل

الإضراب .. حق كفلته المعايير الدولية وقيده قانون العمل


حاتم قطيش -  رنان
31/3/2022

الإضراب هو التوقف عن العمل بصورة مقصودة وجماعية بهدف الضغط على صاحب العمل من أجل الجلوس الى طاولة الحوار أو تلبية مطالب عمالية، ويأتي خيار الإضراب عادة بعد استنفاد كافة سبل الحوار والمفاوضة الجماعية بين الأطراف المتنازعة، وهو خيار يحاول طرفي الإنتاج ( صاحب العمل والعمال ) تجنبه عادة لما له من تبعات سلبية على الطرفين. 

 إذا ما عدنا بالزمن للوراء؛ يمكن اعتبار أول إضراب عمالي في التاريخ قد سجل أيام الحضارة الفرعونة، تحديدا في نهايات السلالة العشرين للفراعنة في عام 1152 قبل الميلاد. حيث غادر الحرفيون أعمالهم في المقبرة الملكية، لأنهم لم يحصلوا على رواتبهم، مما اضطر السلطات الفرعونية حينها إلى رفع الأجور، بينما أخذت الإضرابات العمالية زخمها وتزايدت أعدادها، وأصبحت سمة أساسية من المشهد السياسي مع بداية الثورة الصناعية مع بداية الثلاثينات في القرن التاسع عشر (1830).

الحق في الاضراب مكفول دولياً وعربياً


الحق في الإضراب هو حق مكفول في الشرعة الدولية ومن خلال العديد من المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية، فقد تحدث العهد الدولي الخاص بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية صراحة في مادته الثامنة عن الحق في الإضراب، حيث نصت الفقرة (د) على "الحق في الإضراب شريطة ممارسته وفقاً لقوانين البلد المعني".

كما كفلت الاتفاقيات الدولية كالاتفاقية 87 والاتفاقية 98 والاتفاقية 135 والاتفاقية 150 والاتفاقية 154  حق العمال في حرية التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية وحظرت على الحكومات التدخل في الانشطة والقرارات النقابية التي تقررها هذه النقابات بشكل حر ومن ضمنها قرارات الاضرابات العمالية، وبذلك تكون منظمة العمل الدولية قد ذهبت الى أنه قد يكون مقبولاً فرض التزام على النقابات ولكن يجب أن لا تكون هذه الإجراءات ثقيلة لدرجة تجعل حدوث الإضراب أمراً مستحيلاً.

أما اتفاقيات العمل العربية فهي بدورها أيضاً أكدت على الحريات النقابية وحظرت على الحكومات التدخل في شؤون النقابات العمالية أو التأثير على قراراتها، حيث اكدت اتفاقية العمل العربية رقم 11 بشأن المفاوضة الجماعية على حق العمال والنقابات العمالية في المفاوضة الجماعية والحوار الاجتماعي وكفلت الاتفاقية حق الاضراب أثناء التفاوض وألزمت التشريعات الوطنية على تنظيم هذا الحق، كما نصت صراحة على الحق في الاضراب وذلك من خلال المادة رقم 12 من اتفاقية العمل العربية رقم 8 بشأن الحريات والحقوق النقابية.


الاضراب في التشريعات الوطنية


كفلت المادة 15 من الدستور الأردني حرية الرأي والتعبير وحق الاجتماعات وتأليف الجمعيات والأحزاب السياسية في حدود القانون، كما نصت المادة 23 من الدستور على حق العمال في "تنظيم نقابي حر".
أما في قانون العمل الأردني فقد ورد الإضراب في المواد 134-136 وتحدد هذه المواد الحالات التي يمكن للعامل الاضراب فيها ومتى يحظر عليه الاضراب وما هو مطلوب منه حتى يشرع في اضراب قانوني وما يترتب عليه في حال انخرط في اضراب غير قانوني، كما أشار قانون العمل على نظام شروط واجراءات الاضراب والإغلاق  الذي يصدر بموجب القانون ويتم بموجبه تحديد شروط واجراءات الاضراب .
 قانون العمل المعمول به حالياً لم يتضمن أي تعريف للإضراب، ولكن تم تعريفه في القانون الملغى رقم (21/1960) على أنه "توقف مجموعة من العمال عن العمل بسبب نزاع عمالي".


متى يتم الإعلان عن الإضراب


حسب ما أوردنا سابقاً فإن الاضراب يعد أحد الحقوق الأساسية للعمال وهو مكفول بالشرعة الدولية والتشريعات الوطنية، ولكنه حق مقونن ومنضبط ومنظم ضمن مواد قانون العمل.
ان ما تم التوافق والإتفاق عليه أن الإضراب هو وسيلة وليس غاية؛ بمعنى أنه يجب أن يسبق الإعلان عن الإضراب اجراءات عديدة للتوصل لاتفاق عمالي بين العمال وصاحب العمل، وهذا يفسر الحديث المتكرر عن الحق في المفاوضة الجماعية والحوار الاجتماعي، وعليه يمكن النظر للإضراب على أنه نتيجة طبيعة لفشل مساعي التوصل لتوافق بين الأطراف المتنازعة عن طريق الحوار المباشر والمفاوضة الجماعية.
وحتى لا يتم تجاوز كل مساعي الحوار والقفز عليها أوجبت المادة 135 من قانون العمل الأردني على النقابات العمالية اشعار صاحب العمل قبل مدة لا تقل عن أربعة عشر يوماً من التاريخ المحدد للإضراب وتضاعف المدة اذا كان العمل متعلقاً بخدمات المصالح العامة، وعليه فإن أمام صاحب العمل الجاد في التوصل لاتفاق مع عماله استثمار هذه الفترة من أجل الشروع في حوار اجتماعي حقيقي ومفاوضة جماعية جادة وابرام عقد عمل جماعي ينهي النزاع الدائر بينه وبين العمال.

متى يكون الإضراب محظوراً بالقانون 


ان قانون العمل فتح المجال للمفاوضة الجماعية بين أصحاب العمل والعمال دون تدخل وزارة العمل، حيث يمكن ابرام عقد عمل جماعي دون الحاجة الى فتح نزاع عمالي في وزارة العمل وتمتاز فترة المفاوضة الجماعية المباشرة بين العمال وأصحاب العمل أنها غير محددة بمدد معينة الا اذا تم ارسال كتاب الاشعار بالإضراب فيتم تحديد فترة المفاوضة الجماعية بأربعة عشر يوماً أو ثمانية وعشرين يوماً حسب طبعية عمل المنشأة.

ان تحويل المطالب العمالية بين صاحب العمل والنقابة العمالية الى نزاع عمالي في وزارة العمل يعني التزام جميع الأطراف بإجراءات النزاع العمالي حسب قانون العمل؛ وبمجرد الشروع بإجراءات النزاع العمالي يعتبر تنفيذ أي اضراب أو الدعوة اليه محظوراً ومخالفاً للقانون.

تسوية النزاعات العمالية في قانون العمل 


أفرد قانون العمل الأردني فصلاً خاصاً أسماه تسوية النزاعات العمالية الجماعية معرفاً النزاع العمالي على أنه كل خلاف ينشأ بين النقابة من جهة وبين صاحب عمل أو نقابة أصحاب عمل من جهة أخرى حـــــول تطبيق عقد عمل جماعي أو تفسيره او يتعـلــق بظــــــــروف وشروط العمل وفي هذه المرحلة قد يلجا الطرفين إلى المفاوضة الجماعية كحل لذلك الخلاف.

وقد حدد قانون العمل الأردني مراحل تسوية النزاعات العمالية بالمفاوضة المباشرة ثم مرحلة مندوب التوفيق التي تستمر لمدة 21 يوماً واذا لم يتم التوصل خلالها لعقد عمل جماعي يعاد النزاع الى وزير العمل ليقوم بالتدخل المباشر بين أطراف النزاع ولا يقيد القانون وزير العمل بمدة زمنية معينة لإنهاء النزاع بل أبقاه مفتوحاً.

وفي حال لم تسفر تدخلات الوزير بين أطراف النزاع الى ابرام عقد عمل جماعي يحيل الوزير النزاع الى مرحلة مجلس التوفيق التي تستمر مدة 21 يوماً يفسح فيه المجال لإكمال التفاوض المباشر بين الطرفين للتوصل لعقد عمل جماعي وفي حال انتهاء هذه المدة دون تحقيق توافق يقوم وزير العمل بإحالة النزاع العمالي الى المحكمة العمالية  التي تكون ملزمة بإصدار قرارها خلال مدة أقصاها شهر واحد ويكون قرارها قطعياً وملزماً لجميع الأطراف وغير قابل للطعن.


ثغرات تشريعة تقوض حق الإضراب


 مواد قانون العمل المتعلقة بالمفاوضة الجماعية والنزاع العمالي والإضراب وما تم عليها من تعديلات في العام 2019 شكلت تراجعاً للحريات النقابية وانتقصت من امكانية ممارسة العمال لها بشكل حر وديمقراطي وبإجراءات تنظيمية لا تؤثر على جوهر هذا الحق.

ان حرمان غالبية الطبقة العاملة من حق المفاوضة الجماعية أو حق اللجوء الى وزارة العمل للسير بإجراءات النزاع العمالي أو تنفيذ اضرابات عمالية أو حتى حق إبرام عقود عمل جماعية؛ حتى لو كانوا على شكل مجموعات عمالية ويملكون تفويضاً من العمال واشتراط انتسابهم لنقابات عمالية محددة من أجل ممارسة هذا الأمر؛ ليعد انتهاكاً لحرية التنظيم النقابي ويكبل أيادي هؤلاء العمال من ممارسة دورهم النقابي بحرية كما نص عليه الدستور الأردني والاتفاقيات الدولية.

من جهة أخرى فإن وضع اجراءات لتنظيم حق العمال في الإضراب هو حق للدولة ولكن يجب أن يكون لأهداف تنظيمية ويجب أن تنحصر جميع التعليمات المتعلقة بالإضراب منضوية تحت مظلة التنظيم ولا تؤثر لا من قريب ولا بعيد على جوهر الحق في ممارسة هذا الإضراب كما نصت عليه الاتفاقيات الدولية والعربية التي تم الإشارة اليها سابقاً، ومجرد حصر هذا الحق بنقابات معينة دون غيرها يعد انتهاكاً لهذا الحق ومخالفاً لحرية التنظيم النقابي، كما أن مصادرة حق العمال في تنفيذ الإضراب بمجرد الشروع بإجراءات النزاع العمالي ليعد التفافاً على هذا الحق لا سيما وأن القانون يتيح للوزير بطلب من صاحب العمل أو ممثلي العمال أو دون طلبهم الشروع في اجراءات النزاع العمالي؛ مما يعني امكانية افشال أي دعوة للإضراب بمجرد الشروع باجراءات النزاع العمالي!!


العمال يدفعون ثمن الاختلالات التشريعية


 المهندس عزام الصمادي رئيس اتحاد النقابات المستقلة يؤكد أن القانون بمواده المتعلقة بالنزاعات العمالية وحصرها بالنقابات المنضوية تحت مظلة الاتحاد العام للنقابات العمالية قد حرم شريحة كبيرة من العمال المنتسبين للنقابات العمالية المستقلة من ممارسة حقهم ودروهم في المفاوضة الجماعية والحق في الإضراب وحتى امكانية اللجوء الى وزارة العمل من أجل الدخول في اجراءات نزاع عمالي  أو ابرام عقد عمل جماعي مما قوض العديد من مساعي النقابات المستقلة من الدفاع عن الحقوق والمكتسبات العمالية؛ وهذا بدوره - والكلام للصمادي- يعد انتهاكاً صارخاً لحرية التنظيم النقابي ومخالفة صريحة للدستور الأردني مما يتطلب تجديد المطالبات بإعادة صياغة قانون العمل بما يتوافق مع الاتفاقيات الدولية والعربية وينسجم مع الدستور الأردني، مؤكداً أن شرعية النقابات يجب أن تُستمد من العمال أنفسهم.
النقابي علاء القضاة كان أحد المشاركين في اضراب نفذته اللجنة النقابية للعاملين في شركة اسمنت الرشادية لافارج حيث استمر اضراب العمال ما يزيد عن مائة يوم ليتم بعد ذلك وقف هذا الإضراب دون ابرام عقد عمل جماعي وعاد العمال بخفي حنين ولم يحققوا أي من مطالبهم بل تم الحسم من رواتبهم وتهديدهم بإيقاع عقوبات عليهم من قبل ادارة الشركة حسب قانون العمل الأردني كون اجراءات الإضراب لم تتم حسب ما نص عليه قانون العمل، وبالتالي تم اعتبار الاضراب غير قانوني ويمكن ايقاع عقوبات على العمال المنخرطين به.
القضاة أسند فشل اضرابهم الى عدم دراية اعضاء اللجنة النقابية في الإجراءات القانونية لتنفيذ الإضرابات العمالية وعدم التدخل الجاد من اتحاد عمال الأردن وغياب الشفافية من قبل النقابة العامة مع الهيئة العامة، بالإضافة الى كون الإضراب -بحسب القضاة- تم تنفيذه في الجنوب وبعيداً عن العاصمة وأماكن صنع القرار، كما اعتبر القضاة أن حرمان المهندسين وأي شخص منتسب لنقابة مهنية من الترشح للنقابات العمالية ساعد في اقصاء بعض النقابيين وافشال الاضرابات العمالية.
بدوره أكد رئيس النقابة المستقلة للعاملين بالكهرباء أحمد مرعي على أن حق الإضراب كفلته المعايير الدولية كما أنه حق مكفول في قانون العمل؛ الا إن هذا الحق أصبح عرضة للتجريم من خلال قانون العقوبات مما يعني عملياً اعتبار حق الإضراب مجرّم.

من جهة أخرى دعى مرعي الى أن تكون اجراءات تسوية النزاعات العمالية نزيهة من خلال تدخل أطراف محايدة كما يتم العمل به في العديد من دول العالم كاليابان مثلاً حيث يتم تدخل لجان مختصة ومشكلة من أساتذة الجامعات لتسوية النزاعات ودون ضغط أو تدخل حكومي أو أمني،  وفي حال فشل هذه المساعي يمكن للعمال ممارسة حقهم في الإضراب.

انتقد مرعي مواد قانون العمل التي تصادر حق الإضراب بمجرد احالة النزاع العمالي الى مندوب التوفيق ومجلس التوفيق وانتهاءاً بالمحكمة العمالية، كما دعى الى عدم تجريم هذا الحق من خلال قانون العقوبات الأردني، وطاب مرعي الى ضرورة تعديل قانون العمل ليكفل حرية التنظيم النقابي وجوهره التعددية النقابية .
 وأكد مرعي ان سلاح العمال الأخير في تحقيق مطالبهم هو الإضراب ولكنهم يدركون انه سلاح ذو حدين فهم لا يفضلون اللجوء اليه الا بعد فشل كل مساعي التفاوض، وعليه فلا يجوز حصر التمثيل النقابي وحق التفاوض والنزاعات العمالية في النقابات العمالية المنضوية تحت مظلة الاتحاد العام كونها لا تمثل أكثر من 4% من العمال في الأردن وهذا قائم في العديد من دول العالم حيث النقابات العمالية لا تستطيع تمثيل كافة العمال وعليه يجب أن يكفل القانون حق العمال في المفاوضة والاضراب قائم دون اشتراط الانضمام للنقابة كما نصت عليه مواد قانون العمل قبل تعديلها في العام 2019، مع التأكيد على ضرورة انضمام كافة العمال للنقابات.

الطبيعة لا تقبل الفراغ

لابد من الانطلاق من قاعدة أن الاضرابات العمالية قد تم التوافق من جميع الأطراف على أنها وسيلة وليست غاية وأن من حق الحكومات وضع اجراءات تنظيمية لهذا الحق بشرط عدم المساس بجوهره وأن النقابات العمالية "يجب" أن تقود عملية المفاوضة الجماعية باقتدار وفي ذات الوقت تتمسك بحقها في اعلان الاضراب وادارته بشكل يحقق مصالح العمال.
ان قصور التشريعات الناظمة كقانون العمل من ضمان ممارسة العمال لحقهم في الاضراب وان اي محاولة لحرف النقابات العمالية عن مقصدها وغايتها من تحقيق مصالح العمال وتجنبها تنفيذ الإضرابات العمالية خوفاً وطمعاً من الحكومات وأصحاب العمل من شأنه أن يزعزع ثقة العمال بالنقابات العمالية وقانون العمل وبالتالي يمكن للعمال اللجوء الى تنفيذ اضرابات عمالية خارج نطاق القانون لتحصيل حقوقهم، وهذا ما لا يرغب به أحد.
ان بقاء حق الاضرابات العمالية وتنظيمها بيد النقابات العمالية وممارسة هذه النقابات لدورها بشفافية وأمانة من شأنه أن يضبط هذه الاضرابات ويضمن تنفيذها بما يحقق مصالح العمال ودون احداث أي تجاوزات أو فوضى من هنا أو هناك، فمن يملك حق اعلان بداية الاضراب وادارته بشكل محترف يملك بالضرورة حق انهاء هذا الاضراب وبالتالي انصياع العمال له لثقتهم بإدارته؛ أما حينما يضطر العمال الى تنفيذ اضرابات عشوائية فإنه يتعذر ضبط هذه الاضرابات وستكون هناك صعوبة لايجاد أشخاص يستمع لهم العمال لانهاء الاضراب.
ان وجود قانون عمل عصري يضمن الحقوق العمالية ويقف على مسافة واحدة من العمال وأصحاب العمل ولا ينتقص من الحريات النقابية أصبح ضرورة ملحة من أجل وجود نقابات عمالية قوية تحظى بثقة العمال وتحافظ على السلم المجتمعي وتدير كافة الاجراءات الاحتجاجية ومن ضمنها الاضرابات العمالية باقتدار وكفاءة وأمانة.



إرسال تعليق

التعليقات

جميع الحقوق محفوظة

رنان

2020