حاتم قطيش - "رنان"
28/8/2022
مجموعة من المضطهدين في دياريهم "مكة المكرمة" نالوا ما نالوه من البطش والتعذيب والقتل بسبب دينهم وآرائهم بل وسلبت أموالهم ومنعوا من الخروج من مكة فطاردهم كفار قريش وحاولوا منعهم وقتلهم الا ان ارادة الله سبحانه أن ينجح هؤلاء وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم من الوصول الى المدينة المنورة.
قد ينظر البعض أن أهم حدث في الهجرة النبوية هو تمكن المسلمين من الخلاص من قهر قريش وظلمهم ونجاحهم في الوصول الى المدينة المنورة أحياء، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم النبي المرسل والقائد الملهم جاء المدينة المنورة ليس اتقاء شر قريش فقط وانما لتأسيس دولة تقوم على العدل والرحمة والمواطنة وحرية الاعتقاد.
لك أن تتخيل مجموعة من المهاجرين المنهكين المتعبين صادر المشركون أموالهم فكانوا بلا مال ولا بيوت ولا أعمال، لجؤوا الى مجموعات مشتتة متناحرة " الأوس والخزرج" أنهكتهم الحروب وأتت على جل قادتهم، وجاوروا اليهود ذوو النفوذ والمال والتجارة والمشهورين بالغدر والخيانة.
أمام كل هذه التباينات والتناقضات أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أن لا مناص من البحث عن أمر واحد يجمعها تذوب فيه كل هذه التناقضات، فكانت فكرة ميثاق المدينة الذي يعتبر أول ميثاق أو دستور مدني في التاريخ .. دستور قائم على العدل والمساواة والمواطنة والحق في الأمن والحرية واعلان الأمة الواحدة المستقلة.
ان اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بإرساء دستور الدولة كأول عمل له بعد الهجرة فيه اشارة مهمة جداً الى أهمية الدساتير في اشاعة العدالة والمواطنة والحرية والقضاء على التمييز وسياسة " ما أريكم الا ما أرى"، كيف لا وهو من قال له ربه " لست عليهم بجبار" و "لست عليهم بمسيطر" فالهدف من قيادة الدولة ليس قهر الناس والسيطرة عليهم ولا أفضلية فيه لأحد على أحد بناءاً على علاقته بالقيادة؛ وانما الضابط هو الدستور الذي تخضع له القيادة قبل الأفراد ويتوافق فيه الجميع على اختلاف توجهاتهم ومعتقداتهم.
ولو نظرنا اليوم الى حالة النقابات العمالية وتشتت العمال وتبعثر قوتهم وتنازعهم داخل البيت النقابي الواحد لندرك أن العامل الأساس في هذا التناحر والفشل انما هو التنازع على القيادة وغياب الدساتير النقابية الحرة والعادلة .. " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ".
ان غياب الدساتير والأنظمة النقابية الداخلية أو وجودها شكلياً وعدم تطبيقها بعدالة ونزاهة انما هم وجهان لعملة واحدة؛ فليس الهدف أن يكون لدى النقابات دساتير وأنظمة فقط ، انما نريد دساتير وأنظمة توضع بحرية وتقوم على العدالة وعدم التمييز وأن يضعها العمال بأيديهم لا أن يتم فرضها عليهم .. من غير ذلك فإن وجود أنظمة لا تتوفر فيها هذه المقومات فستكون عاملاً اضافياً في تشتيت النقابات العمالية واضعافها وسيستخدمها البعض من أجل البقاء في القيادة بل وسيفصلها على مقاسه لاقصاء غيره وضمان تغييب جميع منافسيه.
يقع على عاتق القيادات النقابية تفعيل الدساتير والأنظمة الداخلية والامتثال لها وتوريث احترامها للعمال وعدم العبث بها وافراغها من قوتها وحرفها عن مسارها التجميعي، لكننا نجد الأنظمة الداخلية للنقابات اليوم -للأسف- هي أحد أسباب الفرقة النقابية بل وسبباً اضافياً لهجرة العمال من النقابات لا الهجرة اليها، تقونن التمييز ولا تحاربه وتقصي الشباب والمرأة وتجذر سيطرة المتقاعدين عليها، بالمقابل فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رأس الدولة الاسلامية المؤيد بالوحي وعليه أنزل القرآن الكريم كان هو صاحب فكرة الدستور الجامع لأهل المدينة وكان أكثر من احترم هذا الدستور وعمل بمقتضاه، وعليه أصبحت المدينة المنورة بؤرة الدولة الاسلامية التي يهاجر اليها الناس ابتغاء العدل والمساواة والمواطنة المتكافئة.
اقرأ أيضاً:
تكميم الأفواه سنة جاهلية .. نفحات نقابية من وحي السيرة النبوية
إرسال تعليق