الحماية الاجتماعية .. بين عدل عمر بن الخطاب وجور تعديلات قانون الضمان

الحماية الاجتماعية .. بين عدل عمر بن الخطاب وجور تعديلات قانون الضمان


حاتم قطيش - "رنان"

6/10/2022 .. حُدث بتاريخ 22/8/2023

الحديث عن الخليفة عمر بن الخطاب هو حديث ذو شجون ويبعث في النفس الأمل ويرفع الادرينالين ويزيد مستوى الشعور بالعزة والفخر كيف لا وهو الخليفة العادل الذي عمل على مأسسة الدولة بكل مجالاتها.

لعل معظمنا يربط اسم عمر بن الخطاب بالفتوحات الاسلامية والمعارك والشدة في احقاق الحق وارساء  العدل والتفريق بين الحق والباطل، ولكنه رضي الله له اضافات نوعية وابتكارية من الناحية الاجتماعية للمجتمع فكان أول من ابتكر فكرة الحماية الاجتماعية أو الضمان الاجتماعي المبني على أسس ثابتة أهمها أن الدولة هي المسؤولة الأولى عن هذه الحماية الاجتماعية، وأن الحق في هذه الحماية الاجتماعية هو للجميع دون تمييز على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو اللون .. كيف؟ .. سأبين ذلك..

ان نظام الحماية الاجتماعية الذي أرساه الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه اعتبر كبار السن والأطفال والمرضى هم الأولوية الأولى وقدمهم على غيرهم وأوجب على الدولة رعايتهم والانفاق عليهم، فالفئات الهشة والضعيفة هي الأولى بالحماية وليست الفئات القوية ذات الملاءة المالية.

بين الفينة والأخرى يتم اقتراح تعديلات محدودة على مواد محددة من قانون الضمان الاجتماعي، ثم يتبعها حملة اعلامية منظمة للترويج لهذه التعديلات وتبرير التراجع في بعض الحمايات او الغاءها او تضييق مظلة الحمايات الاجتماعية، وبالرغم من تضمن هذه التعديلات على قانون الضمان الاجتماعي بعض الإيجابيات أحياناً الا ان الملحوظ في السنوات القليلة الماضية أن جل التعديلات التي تمت أو المقترحة على القانون تركت تبعات سلبية ألقت بظلالها الثقيلة على منظومة الحماية الاجتماعية في الأردن وجارت على العمال والمتقاعدين ووسعت من مساحة الراحة لكل من الحكومة وأصحاب العمل.


 اعفاء الحكومة وزيادة حمل العمال والمتقاعدين


أجد من المناسب الانطلاق من قاعدة أن الحماية الاجتماعية هي بالأساس واجب الدولة وتنفق عليها من خزينتها وهذا بالطبع لا يمنع من ايجاد موارد اضافية لهذه الحماية كعمل اشتراك شهري بهدف توسيع مظلة الحماية الاجتماعية، ولكنها تكون اجراءات اضافية لتعزيز الملاءة المالية وضمان الاستدامة والمساهمة في توسيع مظلة الحماية الاجتماعية، ولا يجوز بحال أن تكون هذه الاقتطاعات هي المورد الأساسي والوحيد الذي تعتمد عليه الدولة في تأمين الحماية الاجتماعية.

الحماية التي أقرها الفاروق رضي الله عنه لم يساهم فيها أفراد المجتمع بشكل مباشر بل كان يصرف عليها من بيت المال مما يعني أنه اقتطع من موازنة الدولة مبالغ معينة خصصها لأغراض الحماية الاجتماعية؛ وهذا ما نفتقره في قانون الضمان الاجتماعي الذي يقع على عاتقه تأمين الحمايات الاجتماعية للمواطنين، حيث لم تخصص الحكومة أية مبالغ من الموازنة العامة للضمان الاجتماعي بل تكتفي الحكومة بادارة وترؤس مجلس ادارة مؤسسة الضمان الاجتماعي والتأثير على قراراته وتوجهاته وتشريعاته.

ادارة الضمان لا تنفك عن قرع ناقوس الخطر من مغبة الوصول الى نقطة التعادل وتروج لأية تعديلات مقترحة على أنها اجراءات لا بد منها لضمان استدامة الضمان الاجتماعي ، وهذا أمر لا يختلف عليه اثنان بل من حق الأجيال القادمة ضمان استدامة الضمان الاجتماعي، ولكن من ناحية أخرى فإن أية اجراءات وقائية أو استباقية لضمان الاستدامة يجب أن لا تتعارض مع الغاية الأساسية من وجود مؤسسة الضمان الاجتماعي وهي الحماية الاجتماعية؛ بمعنى أن أي اقتراح يؤدي الى استدامة المؤسسة هو اقتراح وجيه طالما أنه لا يؤثر على جوهر الحمايات الاجتماعية ولا يقلل منها، ومن غير المقبول أن لا يكون من ضمن رؤية مجلس ادارة الضمان أن تقوم الحكومة بواجباتها تجاه منظومة الحماية الاجتماعية بتخصيص مبالغ محددة من الموازنة العامة لهذه الغاية؛ الأمر الذي يتعارض مع رؤية الفاروق رضي الله عنه الذي انطلق من قاعدة أن الحمايات الاجتماعية هي مسؤولية الدولة بالأساس، فهاهو عندما أراد تأمين الطعام للمرأة وأطفالها لم يأمر المسلمين بالجمع من أموالهم لاغاثتها بل توجه مباشرة لدار الدقيق التابعة للدولة وأخذ منه حاجة المرأة وأبناءها بل ورفض أن يساعده أحداً قائلاً لمن عرض عليه المساعدة  أأنت تحمل وزري يوم القيامة!!! 


تقليص الحمايات وتكريس التمييز


يجب أن يؤمن المسؤولون أن الحماية الاجتماعية هي ضرورة ملحّة يجب أن تذلل أمامها العقبات وتسخّر لها الأمكانيات والموازنات بحيث يكون الشغل الشاغل للقائمين على مؤسسة الضمان الاجتماعي هو كيفية توسيع مظلة الحمايات الاجتماعية وتوسيع دائرة الشمول وتخفيف الأعباء عن المشتركين؛ وعليه فإن أية تعديلات أو اقتراحات أو مشاريع يجب أن تصب في هذه الغايات ومن غير المفهوم اطلاقاً أن يقوم القائمين على مؤسسة الضمان الاجتماعي باقترح تعديلات على قانون العمل من شأنها تضييق مظلة الحماية الاجتماعية أو تخفف منها ولا تشجع غير المؤمّنين من الانضمام.

الفاروق رضي الله عنه ومن جملة الحمايات التي أسسها أنه فرض راتباً شهرياً لكل طفل يفطم، ثم بعد ان وجد امراة تريد فطم ابنها قبل موعده حتى يستحق راتباً ، وسع دائرة الحماية فأقر راتباً للأبناء منذ الولادة حتى لا يتعجل الناس بفطام اطفالهم، وهنا تبرز الرؤية الواضحة والغاية من الحماية ، فعندما شعر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرواتب المصروفة للأطفال المفطومين لا تكفي وقد تكون سبباً في الحاق الضرر ببقية الأطفال غير المفطومين قدّم المصلحة والغاية من هذه الحماية بتوسيع نطاقها لتشمل كافة الأطفال ولم يكترث لأي أمر آخر فإن التبعات المالية اللازمة لهذا الشمول الجديد هي من واجب الدولة ولن تعدم الوسيلة في تأمينها، لذلك يقال أن رؤيتة للمرأة التي فطمت ابنها قسراً لتستحق الراتب كان ليلاً واعلانه توسيع شمول بقية الأطفال كان في صلاة الفجر.

كما أنه رضي الله عنه كان الهاجس الدائم لديه هو كيفية توسيع مظلة الحمايات فبعد أن شمل كافة الأطفال غير المفطومين بالحماية التي تؤمنها الدولة وجد أن هناك أطفالاً لُقطاء لا أهل لهم ولا معيل ورعايتهم من واجب الدولة بالأساس ففرض لهم رواتب ثابتة من بيت مال المسلمين.

وفيما يتعلق بما أقدمت عليه الحكومة مؤخراً بتضييق التقاعد المبكر وعدم شمول من هم دون سن الثلاثين عاماً بتأمين الشيخوخة!!؛ فإن هذه التعديلات التراجعية تتعارض أساساً مع غاية مؤسسة الضمان الاجتماعي في رعاية كبار السن ومن أرهقتهم أعمالهم الخطرة، وحجة مؤسسة الضمان الاجتماعي الدائمة أن فاتورة رواتب التقاعد أثقلت كاهل المؤسسة!!، وبغض النظر عن كون هذه النتيجة قد حصلت نتاج سوء ادارة أو اجراءات الحكومة في الاحالات على التقاعد المبكر للموظفين بالجملة ومن كون قانون العمل يسهّل الاستغناء عن العمال في سن لا يجدون فيه عملاً فيضطرون لاحالة انفسهم الى التقاعد المبكر، وبغض النظر عن كون نصف المتقاعدين من المؤسسة تقل رواتبهم عن 300 دينار بمعنى أن الرواتب المصروفة أصلاً قليلة وشحيحة ولا تلبي الاحتياج، ناهيك عن ضعف الرواتب لدى العاملين مما يضطرهم لاحالة أنفسهم الى التقاعد المبكر لتأمين مصدر دخل آخر يعينهم على متطلبات الحياة... أقول وبغض النظر عن كل هذه العوامل التي أدت الى ارتفاع فاتورة الرواتب التقاعدية وخاصة المبكر منها، الا ان ايجاد حلول له هو من واجب ادارة الضمان بعيداً عن جيوب العمال والمتقاعدين وتأميناتهم، بل يجب على ادارة الضمان ايجاد موارد اضافية لتغطية هذه النفقات الالزامية لا أن تقوم بالغاء هذه الحمايات من أجل توفير الأموال!!، وهنا نعود مرة أخرى الى وجوب مساهمة الحكومة في دعم مؤسسة الضمان الاجتماعي وأن تخصص لها مبالغ محددة في الموزنة العامة .


استحضر قصة الفاروق مع المتسول اليهودي حيث استغرب رضي الله عنه من قيامه بالتسول وسأله عن سبب ذلك، فأخبره الرجل بأنه لا يملك مال الجزية، فيضطر أن يتسوّل حتى يتمكّن من دفعها..! فقال له عمر: والله ما أنصفناك نأخذ منك شابّاً ثم نضيّعك شيخاً، والله لأعطينّك من مال المسلمين، فدفع عنه الجزية وأجرى له من مال المسلمين..!

هذا هو جوهر وغاية الضمان الاجتماعي الذي سنّه وأرسى قواعده الفاروق العادل عمر بن الخطاب، القائمة على العدالة الاجتماعية والتضامن الاجتماعي والتكافل الاجتماعي بين أبناء المجتمع الواحد دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو اللغة أو اللون، وقد أكده رضي الله عنه عندما فرض لكلِّ نفسٍ مسلمةٍ في كلِّ شهرٍ مُدي حنطة، وقسطي خل، وقسطي زيت. فقال رجل: والعبيد؟ قال عمر: نعم، والعبيد. ثم إنَّه صعد المنبر فحمد الله ثم قال: إنَّا أجرينا عليكم أعطياتكم وأرزاقكم في كلِّ شهر. وفي يديه المدي والقسط فحركهما، ثم قال: فمن انتقصهم فعل الله به كذا وكذا ودعا عليه.

أمر آخر في اقرار التأمين الصحي في عهد الخليفة العادل عمر حيث مرّ رضي الله عنه بأرض دمشق بقوم مجذومين من النصارى فأمر أن يعطوا من الصدقات وأن يجري عليهم القوت، استوقفه أمر واحد وهو وجود مرضى تقع مسؤوليتهم على الدولة ولا بد من التحرك السريع لحمايته وتأمينهم، أما التفاصل الأخرى كالموارد المالية اللازمة لتغطية هذه الحماية، فهي من واجب الدولة ولن يناقشها مع المرضى أو الرعية، ولك أن تتخيل المفارقة العجيبة في عدالة التأمين الصحي لدى عمر الفاروق وبين التأمين الصحي الذي تم اقتراحه مؤخراً ضمن تعديلات الضمان الاجتماعي الأخير - قبل التراجع عنه لاحقاً-  الذي يعفي الدولة من أية مسؤوليات بل ويعفي أصحاب العمل أيضاً من أية تبعات ويلقي بالحمل الثقيل على كاهل العمال والمتقاعدين وحدهم!!!، كما أن هذا التأمين لو تم اقراره كان سيدفع باتجاه تقليص مسؤوليات الدولة نحو المرضى بتخصيص جزء من ايراد صندوق التأمين لتغطية علاج السرطان الذي هو من مسؤوليات الحكومة حالياً!! ، كما أن هذا التأمين يفتقر للاستدامة بحيث يمكن لمجلس ادارة الضمان ايقافه في أي وقت تشاء!!

 الملاحظ في السنوات القليلة الماضية أن جل التعديلات التي تمت أو اقترحت على قانون الضمان الاجتماعي انما جاءت لتريح الحكومة وأصحاب العمل من مسؤولياتهم وتقلل من الحمايات المعمول بها حالياً ولا تقترح أية حمايات اضافية حقيقية وتلقي بالثقل الكامل على أكتاف العمال والمتقاعدين .. أقول شتان بين هذه التعديلات و بين فهم الفاروق عمر وعدله في ترسيخ الحماية الاجتماعية وتوسيع نطاقها وخلوها من أية مظاهر تمييزية واعتبارها مدخلاً لاشاعة العدل بين المواطنين بغض النظر عن دينهم أو لونهم أو لغتهم أو أصولهم .



 


إرسال تعليق

التعليقات

جميع الحقوق محفوظة

رنان

2020