طوفان الأقصى ومستقبل العمل

طوفان الأقصى ومستقبل العمل
عامل يبيع كراتين مستعملة لمصلي المسيرات وسط البلد


حاتم قطيش - رنان 

19/11/2023 

منذ عدة سنوات والحديث دائر عن ما يسمى مستقبل العمل وأثر التطور التكنولوجي والعولمة على التوظيف وكان هناك العديد من الدراسات التي تتحدث عن شكل التوظيف في المستقبل وضرورة تحمل الحكومات وأصحاب العمل والنقابات العمالية لدورهم في الانتقال الآمن والعادل نحو مستقبل العمل؛ لا سيما أن ملايين الوظائف -أو قل- أشكال العمل التقليدية هي فعلياً في طريقها نحو الاختفاء وسيحل محلها ملايين من أشكال العمل الجديدة اذ تتحدث بعض الدراسات أن نسبة تتراوح بين 40% الى 60% من الوظائف معرضة لخطر الأتمتة، وأيضاً هناك دراسات تتحدث عن كون الأتمتة ستعمل على استبعاد المهام وليس الوظائف.

هذا يقودنا أن التوظيف وأشكال العمل في المستقبل - ربما القريب - لن تكون على ما كانت عليه  في الماضي أو حتى حالياً، وهذا بدوره سينعكس على علاقات العمل بين أطراف الانتاج والتي ستتخذ أنماطاً جديدة مختلفة تماماً عن تلك التي اعتاد الناس عليها؛ مما يتطلب التحضير والاستعداد للانخراط بهذه الأنماط الجديدة.

الدكتور جيل فيسار في دراسته " النقابات العمالية في الميزان " يقول أن " العمل لفترات طويلة في نفس مكان العمل أو في نفس الشركة سيصبخ من الأمور نادرة الحدوث" وأن "علاقات العمل بدأت تتسم بنمط جديد من عدم الاستقرار في مجال العمل". فالحديث اذن لا يقتصر على أشكال العمل التي ستختفي أو تلك التي ستظهر وانما التغيير سيكون أوسع بكثير ليشمل علاقات العمل أيضاً وشكل العمل بحد ذاته وعلاقة العامل بصاحب العمل مما سيؤدي الى تشكيل مفاهيم جديدة حول الحماية الاجتماعية والأمان الوظيفي .. الخ.

أجبرتنا جائحة كورونا على اعادة تصور جديد لأشكال علاقات العمل فبرزت الحاجة الملحة الى الانخراط في العمل المرن والعمل عن بعد، فمع أن الحديث عن العمل المرن كان ممتداً منذ سنوات طويلة الا ان الانخراط فيه -اختيارياً- لم يكن بشكل واسع حتى جاءت جائحة كورونا ففرض العمل عن بعد والعمل المرن نفسه كشكل جديد وواقعي لعلاقات العمل ولم يعد ترفاً فكرياً أو منحصراً على وظائف محددة جداً ولأشخاص محددين أيضاً فاتسعت رقعته لتشمل أشكال عمل واسعة وتغطي أعداد عمالاً أكثر.

الذين اعتادوا المشاركة في المسيرات التي تدعم حقوق الشعوب بشكل عام ومنذ عشرات السنوات يعلمون جيداً أن هذه المسيرات تواجه أحياناً بتحريك دعوات مضادة واتهام للمشاركين في هذه المسيرات بأنهم سيقطعون رزق العديد من العمال الذين ينتظرون نهاية الأسبوع لبيع منتجاتهم لاسيما أن هذه المسيرات تقام بالعادة وسط البلد الذي يعد المكان الأكثر نشاطاً من الناحية التجارية خاصة نهاية الأسبوع، وأن محلات وسط البلد لهم تجهيزاتهم الخاصة لمرتادي هذه الأسواق يوم الجمعة بالتحديد.

ومع انطلاق مسيرات التضامن مع غزة من السابع من أكتوبر ومع انطلاق معركة طوفان الأقصى توجهت للمشاركة في هذه المسيرات وفي ذهني رؤية الامتعاض على وجوه التجار والباعة المتجولون؛ ولكن وما ان وصلت موقع المسجد الحسيني في وسط البلد ولكون المسجد مغلق للصيانة فإن المتظاهرين يضطرون للصلاة في الشوارع ثم الشروع في مسيرتهم، هذا الأمر جعل بعض الباعة المتجولون الذي اعتادوا على بيع النثريات والتراثيات الى التحول الى بيع الماء البارد والأعلام والشماغات والعصبات وأيضاً كان هناك عدد من الباعة متخصصون في بيع الكراتين المستعملة بعد أن جعلوها بشكل مبسط لتصلح للصلاة؛ فأصبح من يرغب بالصلاة في الشارع يشتري أحد هذه الكراتين بمبلغ يعتمد على جودة وحجم ونظافة هذه الكرتونة والخبر السعيد أنه بإمكانك التفاوض أيضاً مع البائع على سعر الكرتونة!!

ما ان شاهدت هذا المنظر حتى طرق الى ذهني موضوع مستقبل العمل والحديث الدائم عن اختفاء أشكال عمل وظهور اشكال عمل أخرى؛ فكان هذا المثال الواقعي بأن العامل اذا ما تخلى عن تفكيره التقليدي وتمسكه بنمط عمل معين فبإمكانه أن يتحول من شكل عمل الى آخر بقليل من المهارة والديناميكية في التفكير والحركة، ولكن وفي ظل غياب دور الشركاء الاجتماعيين وعلى رأسهم النقابات العمالية تبقى هذه الفئة من العمال سواء بأشكال أعمالهم القديمة أو الجديدة خارج مظلة الحماية الاجتماعية كون النقابات تقيد نفسها في التفكير والعمل من خلال أشكال العمل التقليدية وتحصر نشاطها في أنماط علاقات عمل معينة ولا تجد فيها الديناميكية الكافية لتفكر خارج الصندوق وتعمل على توسيع مظلة الحمايات الاجتماعية لتشمل جميع أنماط علاقات العمل وأشكال العمل الجديدة.




إرسال تعليق

التعليقات

جميع الحقوق محفوظة

رنان

2020