ترشيق الحكومة ومؤسساتها .. وتسمين الضمان الاجتماعي

 

ترشيق الحكومة والقطاع الخاص .. وتسمين الضمان

رنان - 3/9/2024

قبل سنوات قليلة ابتدعت الحكومة بدعة سيئة بإنهاء خدمات كل من أتم ثلاثين عاماً  في الخدمة ومحققاً لشروط التقاعد المبكر في الضمان الاجتماعي فخرج على إثر هذا "القرار" آلاف العاملين في القطاع العام؛ ليجدوا أنفسهم في مواجهة متطلبات الحياة الكثيرة والالتزامات العائلية ومطالبات البنوك والدائنين والمقرضين فمنهم من اختار العودة الى سوق العمل بشكل غير قانوني ومنهم من وجد نفسه واقفاً على أعتاب صندوق المعونة الوطني.

أحسنت الحكومة في اختيار اسم لطيف لهذه القرارات القاسية؛ فأطلقت عليه "ترشيق القطاع العام"، ثم عادت وأنهت خدمات كل من أتم ثمانية وعشرون عاماً ثم خمس وعشرون عاماً .. كل ذلك في سبيل ترشيق القطاع العام!!


أصل الحكاية


الحقيقة أن الحكومة لم تبتدع هذا الإجراء من بنات أفكارها بل لجأت اليه بناءاً على توصيات صندوق النقد الدولي بوجوب تقليل فاتورة بند الرواتب في الموازنة العامة لضمان قدرة الحكومة على الوفاء بالقروض المستحقة عليها وضمان ملاءة مالية تستحق على اثرها قروضاً أخرى - بضم السين وليس فتحها - .

ان سياسة الحكومة في ايجاد حلول سريعة ونفاد صبرها على رؤية نتائج آنية تنعكس على أرقام الموازنة بشكل مباشر جعلها تفكر في هذا الإجراء القاسي، وبالرغم من لطافة الأسم وجماليته الا انه لا يعكس الواقع البشع الذي خلفه هذا الاجراء على هؤلاء المحالين -قسراً- الى التقاعد المبكر ولا على مؤسساتهم التي يعملون بها ولا على مؤسسة الضمان الاجتماعي التي تحملت العبء الأكبر.


الدولة وأبناؤها يدفعون ثمن الترشيق


أستطيع تخيل الابتسامة العريضة على وجوه الحكومة عندما رأت الإنعكاس المباشر للاحالات القسرية الى التقاعد على بند الرواتب في الموازنة العامة؛ صحيح أن الرقم لم يكن كافياً ولم يروي ظمأ المتعطشين "للترشيق" السريع ابتغاء الحصول على قروض جديدة؛ الا انه شكل ارتياحاً - لحظياً- لدى صناع القرار، ولكن هذه العيون الضاحكة لم ترى كامل المشهد.. ان مقابل أرقام بند الرواتب التي انخفضت هناك أرقاماً من المتعثرين قد ازدادات، وأرقاماً من الجالسين على أبواب صندوق المعونة الوطني قد تضاعفت، وأرقاماً من الفقراء بسبب قلة الرواتب التقاعدية قد تكاثرت، وأرقاماً من المخالفين لقانون الضمان الاجتماعي بعودتهم لسوق العمل خلسة قد زادت أيضاً، وأرقاماً من نزلاء السجون قد ازدادات بسبب ازدياد الجريمة والتعثر المالي..

 أيها الضاحكون المبتسمون ان لابتسامتكم العريضة هذه انعكاس واضح على ارتفاع ارقام البطالة؛ فضحايا التقاعد المبكر أصحاب الخبرات الطويلة الذين اضطروا للعودة الى سوق العمل سيقبلون برواتب أقل وسيقبلون بظروف عمل قاسية وغير لائقة وسيعتبرون الحمايات الاجتماعية ترفاً ليسوا بحاجته وبذلك يتحولون الى منافس صعب للباحثين عن العمل ذوي الخبرات القليلة الباحثين عن أجور مناسبة وظروف عمل لائقة ويحلمون بحمايات اجتماعية.

ان مؤسسات الدولة قد خسرت بالفعل خبرات كثيرة بسبب ان هناك قول يتداوله جميع المدراء وموظفي الدولة وهي أن "ما في أحد مهم عند الحكومة"؛ فلم يتم انتقال سلس للخبرات والمهام، ناهيك عن الانتقائية في تطبيق القرار؛ فالموظف غير الكفؤ ان كان له ظهر وواسطة حافظ على وظيفته والموظف الكفؤ أو صاحب الانتماء والنشاط الحزبي المعارض فهو الأكثر عرضة من غيره لتطبيق القرار، وفي هذا مساس بالنسيج الاجتماعي لن يلمس أثره هؤلاء المبتسمون الا بعد حين.


عدوى "الترشيق" تنتقل الى المؤسسات "المخالطة" للحكومة


يبدو أن مبدأ اتخاذ قرارات آنية وانعكاسها اللحظي على أرقام الموازنات حظيت بقبول واستحسان لدى المؤسسات الحكومية، والمؤسسات التي للحكومة يد في ادارتها؛ فهاهي أمانة عمان الكبرى تتبنى المشروع وتنهي خدمات مئات من الموظفين الذين أتموا خمس وعشرون عاماً في الخدمة ومستوفين لشروط التقاعد المبكر في الضمان الاجتماعي، وهناك حديث عن انهاء خدمات أكثر من عشرة من كبار موظفي مؤسسة الضمان الاجتماعي نفسها في بوادر تأثرها بالعدوى.

ان اصرار الحكومة على المضي قدماً في برنامج " الترشيق" بالرغم من سيئاته الكثيرة ونقل هذه التجربة الى المؤسسات التي لها يد في ادارتها كأمانة عمان الكبرى كون الحكومة هي من تعين أمينها العام ومؤسسة الضمان الاجتماعي كون رئيس مجلس ادارتها هو وزير العمل وهي من تقوم بتعيين مديرها العام ليعتبر مفهوماً نوعاً ما بسبب سطوة الحكومة على هذه المؤسسات وبالتالي فإن القرارات فيها تخرج من مشكاة واحدة، الأمر الخطير هو تهيأة الأرضية التشريعية للقطاع الخاص من خلال تعديلات جديدة اقترحتها الحكومة على قانون العمل من خلال مشروع قانون سيكون باكورة مشاريع القوانين التي سيناقشها مجلس النواب الجديد؛ أقول ان المشروع القانون المعدل لقانون العمل التي اقترحته وزارة العمل وصادقت عليه الحكومة يمهد الطريق ويقلل القيود على أصحاب العمل لانهاء خدمات العمال، مما سيشكل هجرة اضافية أخرى الى طوابير التقاعد المبكر!!!


مؤسسة الضمان الاجتماعي تتحمل عبء الترشيق الحكومي


أصحاب الأجسام السمينة الممتلئة بالدهون الضارة يدخلون في برامج ترشيق تتركز بزيادة الجهد لحرق كميات الدهون المتراكمة؛ أما أولئك الذين يستعجلون النتائج فيلجؤون الى عمليات الشفط وربط المعدة بغية الحصول على نتائج فورية دون جهد وتعب هم في الحقيقية يواجهون مخاطرة صحية كبيرة وحقيقية قد تودي بحياتهم لا قدر الله.

ان الأرقام التي اختفت من بند الرواتب في الموازنة العامة لم تختفي وتتلاشى وتذهب الى العدم وكان حري بمتخذي القرار دراسة مآل ترحيل هذه الأرقام ومدى الخطر التي ستشكله عند استقرارها في موازنة أخرى.. ما عملته الحكومة باختصار هو ترحيل جزء كبير من بند الرواتب في الموازنة العامة الى بند الرواتب التقاعدية في مؤسسة الضمان الاجتماعي!! وكأنها شفطت الدهون المتراكمة على شكل كرش غير جميل في جسم الحكومة الى دهون متراكمة على الكبد وداخل الأوردة والشرايين في مؤسسة الضمان الاجتماعي وبذلك يكون خطرها أكبر ولكنها مختفية ومتوارية عن الأنظار.

لقد تم بعثرة جميع الدراسات الاكتوارية للضمان وأصبحت نقطة التعادل في اقتراب مستمر والتي نخشى أن تكون قريبة جداً في حال الاستمرار على نفس النهج وتآكل أموال الضمان الاجتماعي نتيجة قرارات خاطئة، الا أن يرزقنا الله بحكومة تعي هذه المخاطر ومسؤولون يقدرون أهمية الحفاظ على أموال واستدامة مؤسسة الضمان الاجتماعي؛ عن طريق تعديل قانون الضمان بتخفيض الصرف على الحمايات الاجتماعية بل بابتكار برامج تزيد من بند الواردات في المؤسسة عن طريق توسيع مظلة الشمول في المؤسسة.



إرسال تعليق

التعليقات

جميع الحقوق محفوظة

رنان

2020